الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧

جذوة فى الرماد

*




قصة محمود البدوى

جذوة فى الرماد



حدث فى صباح يوم من أيام الخميس وأنا أتجول وحدى بحى الستى فى هونج كونج وكنت قد اخترقت شارع كوين رود .. باحثا فى واجهات الحوانيت عن آلة تصوير نادرة كلفنى بها صديقى أحمد ـ قبل أن أبرح القاهرة ـ أن أحسست بألم حاد فى أسنانى لم أستطع احتماله ..

وكنت قد شعرت بمثل هذه الأوجاع وأنا فى بانكوك .. ولكنها كانت تأتى لفترة قصيرة .. ثم تمضى .. وأنساها فى خلال المباهج المثيرة التى أراها .. فى الرحلة .. ولكن فى هذه المرة أحسست بها تمزق لثتى وأحسست مثل طعن الإبر الحادة فى فكى الأسفل .. وفكرت أن أتصل بالفندق تليفونيا .. وأعرف منه عنوان طبيب أسنان ..

ولكننى لمحت أجزخانة فى الشارع فدخلتها .. وسألت الرجل عن طبيب أسنان فدلنى على طبيب فى الشارع المجاور ..

وصعدت إلى الطابق الثالث .. فى عمارة ضخمة .. وأحسست وأنا أقرع الجرس بأن الألم قد زال .. فكرت فى أن أعود لولا أن رجلا قصيرا قبيح الوجه فتح لى الباب فى هذه اللحظة وانحنى لى دون أن ينبس .. وقادنى إلى حيث توجد سكرتيرة الطبيب وكانت شابة ترتدى ملابس متأنقة فأحنت رأسها وابتسمت ..

وسألتها بالإنجليزية عن الطبيب وأنا أضع يدى على خدى ..
فسألت برقة :
ــ هل معك ميعاد .. ؟
ــ أبدا .. إنى شعرت بالألم الساعة ..
ــ سنجعل الميعاد فى صباح الاثنين الساعة الحادية عشرة ..
ــ إننى سائح .. وقد أسافر .. قبل ذلك ..
ــ إذن سنجعله .. غدا ..
ــ ألا يمكن الآن .. ؟
ــ الآن .. لا يمكن أبدا ..
ــ إننى أتألم .. انقلينى إلى المستشفى .. أنا غريب .. أرجوك ..
فصوبت إلىّ نظراتها لمدة نصف دقيقة ..

ثم قالت بصوتها الخالى من كل العواطف :
ــ لحظة من فضلك ..
وغابت عنى .. دقيقتين .. وفى أثناء ذلك عاودنى الألم بشدة .. وأحسست بفكى ينخلع ..

وعادت السكرتيرة .. وقالت مبتسمة :
ــ ستدخل بعد قليل ..
ــ شكرا ..
وتركتنى وحدى .. وأخذت أقلب بصرى فيما حولى .. لم أر فى القاعة مريضا سواى .. ولم يكن فى العيادة سوى هذه السكرتيرة .. والخادم .. الصينى الذى كان يقف كالأبله بجوار الباب الخارجى .. وكانت هناك ساعة تدق .. كل ربع ساعة .. وخلاف هذه الدقات لم أسمع أى حركة على الإطلاق ..

وكانت أرضية الحجرة مغطاة بالمشمع .. والحيطان عارية من الصور .. ولكن الستائر الحريرية على النافذة .. وعلى الباب .. والمفارش المزركشة على المساند .. وعلى المناضد ..

وطال جلوسى .. ولم يأت إلىّ أحد ولم أسمع حسا .. وخفت حدة الألم .. وكنت أود أن أنسل إلى الخارج .. فإن هذا الأبله الذى فتح لى الباب لا يمكن أن يعرف إن كنت قد دخلت على الطبيب أم لم أدخل ..

وفى أثناء هذه الخواطر .. دخلت علىّ ممرضة جديدة لم أرها من قبل وقادتنى إلى غرفة الفحص ..

ودخلت فوجدت سيدة فى منتصف العمر ترتدى معطفا من النيلون الأبيض وتضع على عينيها منظارا .. وتصورتها ممرضة أيضا .. ولكن لما أجلستنى أمامها على المكتب وأخذت تسألنى عن علتى أدركت أنها الطبيبة المختصة .. ولم أكن أتوقع أن أدخل على طبيبة صينية فى هونج كونج أبدا ..

وكانت جامدة الوجه وهى تفحص أسنانى .. وكنت أود أن أعطيها كل ما فى جيبى من عملات مختلفة لتبتسم .. وأرى لون أسنانها .. ولكنها لم تخفف من جهامة ملامحها قط ..

وعلى الرغم من هذه الجهامة البادية فقد كانت يدها رقيقة .. ولقد تحملت بصبر عظيم كل حدة أعصابى .. وفزعى من مجرد حركتها الخفيفة على اللثة ..

وسألتنى :
ــ لماذا تبدو .. عصبيا .. ؟
ــ ليس لى ذنب .. فى هذا .. قد أكون ورثت هذه الأعصاب ..
ــ أجل .. قد تكون ..
وكانت تتحدث الإنجليزية .. بطلاقة ..

ولما قلت لها .. بأننى كنت أتوقع أى شىء .. إلا أن أجد طبيبة فى هذا الشارع ..
قالت :
ــ لماذا .. ؟ هل هو شارع مهجور .. ؟
ــ أقصد .. سيدة ..
ــ لماذا .. ألا توجد عندكم طبيبات ..؟
ــ عندنا .. ولكنهن قليلات جدا .. والبنات يرغبن فى الكليات الأخرى ..
ــ لدينا كلية للطب .. وبها كثير من البنات .. وأنا درست الطب فى لندن .. وكان زوجى طبيبا أيضا ..
ــ هذا رائع ..

وسألتنى :
ــ لماذا أهملت .. أسنانك هكذا .. ؟
وشعرت بالخجل .. ولكننى قلت :
ــ بالطبع .. لم أكن أتصور أننى أهملتها ..
ــ لقد تركت هذه الطبقة الجيرية تتحجر فأنا الآن أكسر أحجارا ..
وفزعت .. ونظرت إلى عينيها ..

وأضافت هى بتؤدة :
ــ قلت .. لمس تشن .. بأنك مسافر .. متى السفر .. ؟
ــ سأبقى .. حتى ينتهى العلاج ..
ــ هذا حسن ..
ولانت ملامح وجهها قليلا ..

كانت رقيقة الطباع حقا .. وكان صوتها عذبا .. وكانت متوسطة الطول جميلة الوجه فى السابعة أو الثامنة والثلاثين من عمرها .. ويبدو الشباب بكل قوته على وجهها .. وكانت الضمة التى فى جانبى جفنيها هى أشد الأشياء فتنة ..

وسألتها بعد أن انتهت من عملها ..
ــ هل يمكن أن أعرف مصاريف العلاج .. ؟
ــ هل أنت طالب ..؟
ــ لا .. إننى مجرد سائح ..
ــ ستحدد لك سكرتيرتى المبلغ .. وتعرف منها مواعيد الزيارة ..
وشكرتها ..

وتركتنى .. ونفذت من باب آخر .. وكانت قد خلعت نظارتها .. وبدت متعبة .. ولكن وجهها بعد أن خلعت المنظار ازداد نضارة وشبابا ..

* * *

وفى صباح السبت .. دخلت عيادة الدكتورة يانج .. مرة أخرى وقادنى خادمها الصينى إلى الداخل .. وجلست على الكرسى ذى المساند .. وأخذت الطبيبة تزيل بأناملها الرقيقة .. الطبقة الجيرية .. من أسنانى العليا .. وكانت رغم كل رقتها تدمى أسنانى فأشعر بإنسانيتها الرقيقة .. وهى تمسح هذه الدماء .. بالقطن الناعم المعقم .. ثم تغسل الجروح بالمطهر ..

وكانت الجلسة الواحدة .. تستغرق نصف ساعة كاملة ورغم الألم الذى كنت أعانيه من مجلسها فإنى لم أكن أشعر بمرور الوقت .. ولم أكن أدرى أكان ذلك لوجهها الساكن أم لأنى لمست فيها صفات إنسانية لم أرها من قبل فى إنسانة مشغولة بالعمل .. أم لرقة حديثها ولأنى أدركت أنها تخصنى بجانب من وقتها ..

وكانت الأوجاع قد قلت نسبيا .. ولكننى لم آسف وأنا أقضى وقتا من الصباح فى التردد على عيادة طبيبة فى مدينة عامرة فى كل ساعة بالمباهج والمتع ..

وكانت الدكتورة يانج قد خبرت كل صفاتى فى خلال الأيام العشرة التى قضيتها وأنا أتردد عليها .. كما أننى عرفت كل طباعها .. تقريبا.. فهى متفرغة لعملها فى دقة متناهية ونشاط لا يوصف .. ويكتسى وجهها بصرامة .. لا أعرف سببها .. ولكنها فى عملها متفانية فى الرقة .. وقد تبسطت معى فى الحديث .. لأنى غريب .. وقد عرفت منها أن زوجها الطبيب الذى حدثتنى عنه من قبل التقت به أثناء عملها فى أحد المستشفيات .. وأحبها ولما طلب يدها لم ترفض .. ومات .. بعد عشرة قصيرة .. فى أثناء غارة اليابان على هونج كونج فى الحرب الأخيرة وبقيت هى تكافح وحدها .. وقالت لى إنها كانت تحبه لأنه كان يحترمها ويحوطها بحنان دافق ..

ولقد أدركت أن جذور الرجل .. رغم مضى هذه السنين الطويلة .. لا تزال متأصلة فيها وذكراه لا تزال باقية .. ولهذا أحبت عملها وتفانت فيه ..

ولقد قضيت ثلاثة أسابيع .. وأنا أتردد على هذه السيدة .. وأجلس تحت مصباحها البللورى .. وأقع تحت نظراتها .. العادية .. ونظرات المجهر ..

ولقد لمست فيها كل الصفات النبيلة التى أحبها فى المرأة .. فقد عاملتنى بإنسانية زائدة ولما تبينت فقرى .. لم تأخذ إلا ربع الأجر ..

وكان المعروف عن نظام عيادتها أنه لا يلتقى عندها مريض بمريض .. لأن كل واحد يأتى فى الساعة المحددة له .. ولاحظت أنها غيرت موعدى فجعلته فى المساء بدل الصباح .. وجعلتنى آخر واحد لتحادثنى أكثر وأكثر .. ولقد شعرت بأنها تخصنى .. بشىء غير عادى من رعايتها .. ومن نظراتها .. ومن حنانها ..

وفى مساء يوم .. وكنت آخر مريض فى جدولها كالعادة .. أبديت لها رغبتى فى أن تدلنى على محل أشترى منه معطفا لوالدتى ..

فسألتنى وهى تصوب إلىّ نظراتها المتألقة :
ــ كم عمرها .. ؟
ــ أنها فى الثامنة والثلاثين .. مثلك .. وفى مثل طولك ..
وكانت حماقة منى أن أحدثها عن سنها .. فإن وجهها امتقع قليلا .. ثم عادت .. وابتسمت وقالت بصوت أكثر رقة ..
ــ إذن أرافقك إلى المحل .. لتقيس المعطف علىَّ ..

وقالت وهى تخلع مئزر العمل ..
ــ متى تحب أن تذهب .. ؟
ــ الآن .. إذا لم يكن لديك مانع ..

ودخلنا متجر لين كروفورد .. فى شارع دى فو .. حادثت السيدة يانج .. العاملة بالصينية فعرضت علينا أجمل ما لديها من المعاطف .. وارتدت المدام .. المعطف .. الذى وقع عليه اختيارنا .. وأقبلت وأدبرت به .. فى الممشى .. ثم دخلت به أمام المرايا البللورية ورأته من أمام ومن خلف ..

ولقد أحسست بها فى هذه اللحظة أكثر جمالا .. وفتنة .. من كل الساعات التى رأيتها فيها .. كانت حلوة آسرة .. فى المعطف السنجابى .. المتناهى فى الروعة ..

ولقد شعرت فى هذه الساعة بقلبى يتحرك فى أعماقى .. وأدركت أن يدها .. لم تكن تلمس فمى وأسنانى .. ولثتى .. وإنما كانت تلمس قلبى وأنا لا أحس بها ولا أشعر .. وكنت أود أن أحرك يدى .. وألمس كتفها .. وصدرها من فوق المعطف .. ولكنى رددت نفسى عن هذه الرغبة .. وأنا أنظر إليها بوله ..

وسألتنى :
ــ هل يروقك .. ؟
ــ طبعا .. وإنه سيحمل تذكارا جميلا ..
ــ أى تذكار .. ؟
ــ سأذكر .. أنك لبسته .. وأنه ضم جسمك ..
فاحمر وجهها .. وتحركت إلى الطاولة ..

ولما أخذت البائعة .. تلف المعطف .. سألتنى عن العنوان الذى ترسله إليه فقلت لها :
ــ فندق الجولدن جات ..

فابتسمت المدام .. ولكنها لم تنبس .. وكنت أعرف أن هذا الفندق ينزل فيه بعض الفتيات الأمريكيات .. العاملات فى هونج كونج .. فهل تصورت أننى اخترت هذا الفندق لهذا السبب ..؟ احمر وجهى وكنت أود أن أقول لها إنى لا أختلط بأحد .. ولكننى وجدت أن من الخير أن أصمت مثل صمتها ..

ولفحتنا موجة برد قارسة .. ونحن نسير فى جوار إحدى العمارات الكبيرة ..

فقلت لها :
ــ هل تقبلين منى دعوة إلى فنجان من الشاى .. ؟
ــ إنها .. بلدى .. وأنا .. التى يجب أن أدعوك ..
ــ أرجوك أن تقبلى دعوتى أولا ..

ودخلنا مشربا صغيرا .. وجلسنا متجاورين على كرسى صغير من الجلد وأحسست بها أكثر قربا .. وأكثر حنانا ..

وكانت هناك موسيقى هادئة تنبعث من جرامافون .. وفتاة من جانب قاعة الشاى .. تغنى بالصينية فى صوت هادئ حزين .. وكانت الفتاة جميلة .. ولكننى كنت متجها بكليتى إلى المدام .. فجلسنا نتحدث وكأننا نتناجى لمدة ساعة ونحن لا نحس الوقت ..

ولقد أحسست وأنا فى القاهرة .. بعاطفة الحب مع فتيات فى مثل سنى .. ولكنه كان حبا عارضا سريعا .. كنت أنساه كلية بعد شهر .. أو أقل من شهر .. ولكن هذه السيدة سيطرت على مشاعرى تماما .. ولقد قابلتها بقلب خال من المشاعر .. فتحولت كل مشاعرى إليها .. وكنت أحب فى الواقع أن تطول مدة علاجى .. إلى نهاية شهر ديسمبر وكنت أستطيع أن أحل مشكلة النقود .. بأن اقترض من تاجر باكستانى فى هونج كونج وكان يتعامل مع أخى عبد الحى .. فى الإسكندرية .. وبينهما حساب متصل .. وأنا لم أكن أعمل شيئا ذا بال يجعلنى أتعجل العودة .. فمنذ فرغت من دراستى الجامعية وأنا أخير نفسى الاستمرار فى الدراسة للحصول على الدكتوراه .. أو أن أساعد أخى فى تجارته ..
ولم أكن أفكر فى وظيفة الحكومة أبدا ..

وكانت حالتى الصحية فى الحقيقة تجعلنى أحب هذه الرحلة .. وكنت فى الواقع .. قد أنجزت فى هونج كونج مهمة جليلة القدر لأخى .. فاستطعت أن أحرك بعض نقوده المتجمدة فى بنوك هونج كونج .. وأن أحصل على كثير من نقوده التى كانت فى حكم الضياع ..

* * *

ولا أدرى هل أحست الدكتورة يانج بقلبى .. ونحن ندخل الأسبوع الرابع من أول لقاء لنا .. وكانت هونج كونج نفسها .. قد ازدادت فى نظرى جمالا وإشراقا .. وكنت قد قطعتها طولا .. وعرضا .. ورأيت كل مرتفعاتها .. وكل تلالها .. الزمردية .. وكل المباهج التى فيها وكل أنوارها الساطعة .. وبقى علىّ أن أشاهد الريف فى الصين .. وكنت أحن إلى ذلك حنينا لا يدركه العقل ..
ولما حدثت مدام يانج ..

قالت :
ــ إن لى كوخا فى الريف بالقرب من لوو .. وكنت أذهب إليه وأستريح .. ولكنه الآن شبه مهجور ..
ــ ولماذا لا نذهب إلى هناك لمدة ساعة .. لآخذ فكرة عن الريف .. ؟
ــ إذن سنذهب .. فى صباح السبت المقبل ..

وطرت من الفرح .. وخرجنا من العيادة نودع خادمها الأبلة .. وذهبنا إلى مطعم مشهور بالطعام الصينى فى شستر رود .. فتعشينا عشاء شهيا ، ثم جلسنا فى قاعة للشاى هادئة نشرب الشاى ونستمع للموسيقى .. ولقد كانت تبعد بى دائما عن كل الأماكن المزدحمة .. كانت فى حاجة إلى الهدوء والراحة ..

* * *

ولما التقينا صباح السبت فى فناء محطة هونج كونج لنركب القطار .. وجدت أن الخادم الأبله يرافقها وكان يحمل حقيبة كبيرة ..

وكنت أقدر أنه جاء ليودعها على المحطة .. ولكنه ركب معنا القطار ..

وبعد أربعين دقيقة .. من المزارع الناضرة .. والمناظر الطبيعية الفاتنة بلغنا محطة .. لوو ..

* * *

وتجولنا قليلا فى المدينة .. ثم ركبنا سيارة أجرة انطلقت بنا بين المزارع الجميلة حتى بلغنا الكوخ .. وكان عبارة عن حجرة واحدة كبيرة من الخشب وكان مطليا باللون الأحمر وسقفه محدودبا .. وعلى الواجهة رسوم من الخزف ..
وشاقنى الكوخ والمزارع التى على امتداد البصر منه ..

وكانت أشجار الخوخ والورد والتفاح تغطى الأرض .. وقريبة منا .. والبرسيم .. هو الزراعة الأساسية فى المنطقة وسررت من تقسيم الأرض الهندسى ومن الجداول الصغيرة .. والآبار المتقاربة .. والفلاحات .. يحملن الدلوين على العصا الطويلة .. وكل دلو فى جانب كالميزان .. وكن جميلات مشرقات .. وعلى رؤوسهن القبعات العريضة من الخوص ..

ووقفت مع شابة منهن أتحدث بالإشارة .. وكانت السيدة يانج .. قد دخلت مع خادمها الكوخ .. ليهيئ لنا مجلسا ويعد لنا الغداء ..
ولما عادت وجدتنى جالسا بجوار الفلاحة الصينية ..

فسألتنى :
ــ بأى لغة تحادثها ..؟
ــ بالإشارة ..
ــ هيا لنتجول .. إنك لم تأت إلى هنا لتحادث الفلاحات .. وتجولنا .. وبعد ساعة تغدينا داخل الكوخ .. ثم خرجنا لنتجول جولة طويلة .. وبعد أن تعبنا جلسنا نتحدث تحت شجرة من شجر التفاح .. ثم أخذنا المطر ونحن فى الطريق إلى الكوخ وغرقنا تحت سيل منه .. ولم نكن نرتدى معاطف .. وعندما وصلنا إلى الكوخ كنا مبتلين تماما ..

وضحكنا لمنظرنا وأشرت عليها بأن ندخل ونجفف ثيابنا .. على النار .. التى أشعلها الخادم فى الداخل ..
ولكنها طلبت منى أن أدخل أيضا ..

فقلت لها :
ــ ادخلى أنت .. أولا .. وجففى ثيابك ..
ــ وأنت كيف تظل هنا .. تحت الأمطار .. ؟
ودخلت وسحبتنى من يدى .. وهى تحادث الخادم وعملا ستارا فى جانب من الغرفة وأصبح المكان معدا لها ..
ودخلت وراء الستار لتخلع ثيابها..
وتركنا الخادم ليعد لنا الشاى ..

وخلعت أنا سترتى .. وقميصى ونشرتهما على كرسى .. بجوار النار .. وخرجت هى بقميصها .. واقتربت من النار .. وكانت الرياح تصفر فى الخارج .. والأمطار تتساقط بغزارة والظلام قد أخذ يزحف .. وكانت النار التى فى المدفأة .. هى التى تنير الكوخ ..

وجلست السيدة يانج مسترخية بجانب النار .. وانا بجوارها .. ورأيتها فى هذه الساعة .. كعذراء فى سن العشرين تستشف المجهول من خلال اللهب ..

وكانت مسترخية ومغمضة عينيها .. ويسقط اللهب الشاحب .. على الخد والجبين .. والشعر .. فيذهبه .. ويكسوه بلون العسجد ..

ودخل علينا الخادم بالشاى .. ووضع أمامنا الكوبين ..وفى قعرهما الشاى الأخضر .. ثم الإبريق الذى كان لا يزال ينش منه البخار ..

وسألتنى .. قبل أن تصب الماء المغلى ..
ــ إنك تود سكر ..؟
ــ لا .. سأشربه .. مثلك ..

وكانت متغطية .. بالبطانية .. لتخفى عنى قميصها ..وأحسبه كان على لحمها .. الطرى .. ورأيت استدارة كتفيها .. وعنقها العاجى .. وشعرها الأسود .. الذى زاده اللهب .. لمعانا وفتنة ..

وكانت عيناها تبحثان عنى فى النار .. وعن أسرارى وأسرارها .. وأسرار الحياة .. وأسرار الوجود كله .. وكنت أفكر مثلها .. فى الشىء الذى جمعنى بها .. وجعلها تأتى إلى هنا لتنفرد بى فى خلوة حالمة .. وأنا الغريب عنها .. المار فى سماء حياتها كما يمر الطيف ..

ولم يكن هناك أحد بجانب الكوخ .. أو قريبا منه .. كان على ربوة .. منعزلة ..

ولولا أنها كانت جامدة وقد أماتت السنون كل عواطف الأنوثة التى فيها لتصورت أنها اختارت هذا االمكان .. لتجدد عواطفها وذكريات شبابها ..

ودخل الليل .. ولم ينقطع المطر ورأينا أن نقضى الليل فى الكوخ .. ولم يكن بقى معنا طعام ولا شراب .. وأحسسنا بالجوع الشديد .. وبعد حديث ومشاورة .. رأت أن ترسل الخادم إلى لوو .. ليأتى لنا بزجاجة نبيذ وبعض الطعام .. والخشب للنار .. ولو أن المشوار طويل .. ويستغرق ساعتين ولكنه خير من أن ننام على الطوى فى هذا البرد الشديد ..

ومع أن خادمها كان مؤدبا .. جدا .. ولكننى شعرت بعد أن تركنا بالراحة .. وأصبحت السيدة يانج بجوارى وحدها .. وتحت لمساتى .. ورغباتى .. ولكننى لم أقرب منها ..

وكنت أود أن أسألها :
ــ ألم تحبى قط بعد زوجك ..؟
ولكننى وجدت السؤال لا معنى له .. فى مثل هذه الساعة .. لأنها لا يمكن أن تجاوب بصراحة .. وكانت قد التفت كالقوقعة ..

وكنت أنظر إلى اللهب .. الذى أخذ يتضاءل .. فى النار .. حتى كادت الشرارات أن تخمد ..

وتحركت واقتربت من الموقد وبحثت عن جذوة .. فوجدتها لا تزال مشتعلة .. ووضعت عليها قطعتين من الخشب وحركت النار .. فاشتعل المكان وتوهج .. ووجدتها ترقبنى بقوة وأنا أفعل هذا ..
وكان وجهها ساكنا ..
وأنفاسها تتردد بهدوء ..

والواقع أننى كنت أبحث عن جذوة فيها هى .. لأحركها .. كما حركت هذه النار ولكن لم أكن أدرى أين أضع أصابعى .. ؟
ورأتنى أتحرك وأتجه إلى الباب ..

فسألتنى :
- إلى أين .. ؟
- إنى أنظر إلى المطر وإلى الليل .. فى سماء الصين ..
- ألا يوجد عندكم مطر ..؟
- يوجد .. ولكن ليس بهذا القدر .. إن ما عندنا يعتبر رذاذا .. كنت أنام فى الحقول والأمطار ساقطة .. فلا تبتل ثيابى ..
ــ هل أنت ريفى .. ؟
ــ أجل .. وقضيت صباى كله فى الريف ..
ــ ولهذا تبدو قويا ..

ونظرت إلى عينيها .. وكانت أكثر اتقادا .. من عينى ..وحركت يدى .. على ذراعها وكانت البطانية لا تزال تغطى صدرها ..

وسألتها :
ــ هل تشعرين بالبرد ..؟
ــ لا .. وإنما أشعر بحاجة .. إلى فنجان من الشاى ..
ــ هل بقى شاى .. ؟
ــ أظن ..
ــ ووضعت الماء فى النار ..
وشعرت بها خجلى .. وهى تزحف ملتفة .. بالدثار ..

فتحركت إلى الباب .. واتجه نظرى إلى الخارج .. وعندما تلفت وجدتها .. عارية .. هناك وراء الستار .. ولم أكن أدرى أتريد أن تجفف الملابس الباقية .. أم ترتدى الملابس التى جفت .. ؟

وتحولت عنها إلى النار .. وكان وهجها .. يغشى عينى .. ورأيت اللهب الأحمر .. يشب ويخبو .. فألقيت بقطع من الخشب .. وتناولت الماء الذى فى الإبريق .. وكان ينش وحملت إليها الفنجان ..

وكانت قد ارتدت الجونلة .. التحتية .. وأخذت تضع الصدار .. وبدا صدرها تحت نظراتى وتحت ضوء النار ولهبها ..

ومدت يدها تمسك بالصدار .. فناولته لها .. ونظرت إلى طويلا .. وظللت ممسكا بيدها ونظراتى إلى عينيها .. وكانتا أكثر اتقادا .. من عينى .. وحركت يدى .. على ذراعها .. وسقط الصدار على الأرض ..
ــ إنك دافئة ..

ولم ترد وظلت صامتة وشددتها إلى صدرى .. وجذبتنى إلى الفراش وكنت أقبل عينيها وشفتيها وصدرها .. وكل ما يقع تحت شفتى وانطفأت النار التى فى المدفأة .. ولكن جذوتها كانت قد اشتعلت فينا .. وسقطت علينا البطانية التى كانت تستعملها كستار .. فجذبتها فوقنا ..

* * *

وتنبهت مدام يانج مذعورة على صرخة حادة خرجت منى .. فقد أحسست فجأة بسكين حادة تمزق ظهرى .. ولما نظرت المدام .. من خلال الظلام .. رأت خادمها .. يجرى منحدرا عن الربوة بسرعة الريح .. وكان قد وضع الشىء الذى حمله من السوق بجوار الباب ..

وسألت المدام .. وهى تغسل جرحى ..
ــ إلى أين هو ذاهب .. ؟
ــ سيعبر القنطرة .. ويذهب إلى الجانب الآخر ..
ــ ولا يعود .. ؟
ــ أبدا ..
ــ منذ متى وهو فى خدمتك ..؟
ــ إن له حوالى عشرين سنة .. فى بيتنا ..
ــ إنه جذوة .. مثل هذه الجذوة التى ترينها فى هذا الرماد .. جذوة مشتعلة .. ولكنك لم تحسى بها .. وتلك هى الغفلة الأزلية .. فى المرأة .. وفى طبيعة الكثير من البشر ..
ــ اسكت .. إن الكلام يؤذيك .. ويجعل الجرح .. ينز ..
ــ وهل سأشفى ..
ــ بالطبع ..
ــ الطعنة .. لم تكن قاتلة .. ؟
ــ أبدا .. إنها سكين صدئة وجدها فى المطبخ ..
ــ أحس بأنى سأعيش .. ولكن إن مت .. اجعلى رأسى هكذا على صدرك ..
ــ اسكت ..

واحتضنتنى .. أكثر .. وأحسست بشفتيها تبحثان عن الجرح ..

================================
نشرت القصة فى مجلة " الجيل " 23/2/1959 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================

قصة اللؤلؤ

*




اللؤلؤ
قصة محمود البدوى



هونج كونج ميناء حرة .. وفى سوقها كل ما ينتج فى العالم .. والساعات والجواهر واللؤلؤ هى أشهر الأشياء التى تباع فى الحوانيت .. هذا ما عرفته من الدليل ..

وعندما سرت فى حى شستر رود فى قلب المدينة مستعرضا الحوانيت .. كنت أفكر فى شراء عقد من اللؤلؤ .. أهديه لوالدتى .. عندما أعود إلى القاهرة فتفرح به .. فى مرضها .. وأكفر به عن كل سيئاتى لها .. طوال هذه السنين .. وأرد لها بعض ما كنت أغتصبه منها من نقود .. لأنطلق وراء الشيطان ..

وعندما تموت سأسترد العقد .. وأبقيه للظروف .. فهو كنز وفى استطاعتى إذا بعته أن أكسب منه مئات الجنيهات ..

وعندما دخلت محل يونج أكبر تجار الجواهر فى هونج كونج .. رأيت اللآلئ لأول مرة فى حياتى .. ولمستها بأصابعى العارية .. كنت أراها من قبل عن بعد على صدور النساء الأنيقات فى حفلات الأوبرا .. أو أراها مصورة فى الصحف .. أما الآن فقد لمستها ..

وضعت البائعة عقد اللؤلؤ على صدرها وزهت به .. وعرفت منها اللآلئ المصنوعة واللآلئ الطبيعية .. ولم أستطع لا بالنظرة المجردة ولا حتى بالمجهر أن أميز أى فرق ..
واشتريت عقدا صغيرا من اللؤلؤ الطبيعى ودفعت فيه تسعة آلاف دولار ..

وفرحت به .. ووضعته فى حقيبة صغيرة .. وأغلقت عليه الدولاب فى الفندق .. كشئ عزيز المنال ..

وكنت دائما أفكر فيه .. وجعلنى التفكير .. أدخل محلا آخر فى حى المتاجر الشهير فى شارع دىفو .. لأعرف السعر .. فقد تصورت أن الرجل اشتط علىّ فى الثمن ..

ولما عرض علىّ التاجر الثانى بعض ما عنده من لآلئ جعلنى .. أشك فى كل شىء .. فقد فهمت منه .. أن هناك لؤلؤا يزرع فى أعماق البحار .. كما تزرع أشجار المانجو والتفاح فى الأرض ويظل فى أعماق البحار من ثمانى إلى عشر سنوات .. وهذا اللؤلؤ المزروع لا فرق بينه وبين اللؤلؤ الطبيعى على الإطلاق .. وخرجت من عنده وأنا ألعن القدر الذى جعلنى أفكر فى شراء شىء ليس لدىّ أدنى خبرة فيه ..

ثم شغلت بجمال المدينة .. ومافيها من بهجة ولم أعد أفكر فى الأمر كما كنت أفكر فيه من قبل ..

وكنت أقيم فى فندق السهم الذهبى .. بشبه جزيرة « كولون » .. ولكننى كنت أذهب فى بكرة الصباح إلى هونج كونج .. وأشاهد هذه المدينة الراقدة على سفح التل وهى تبدأ الحياة .. وبعد أن أعبر الخليج وأخرج من الميناء .. أشترى جريدة جنوب الصين .. من بائعة هناك على الرصيف .. وكانت كما بدت لى أرملة .. فى الخامسة والثلاثين من عمرها .. ترتدى رداء صينيا .. من قطعتين .. وكان يجلس بجوارها غلام فى الخامسة عشرة من عمره يمسح الأحذية .. وكنت أمسح عنده حذائى كل صباح .. وأعطيه نصف دولار فى كل مرة .. فيسر به كثيرا ..

وكنت أقلب فى الجريدة فى الفترة التى أمسح فيها الحذاء ثم أتركها للمرأة وأنا ماش بعد أن أكون قد نقدتها الثمن .. فكانت تسر جدا من هذا العمل .. وتحاول فى كل يومين أو ثلاثة أن تعطينى مجلة التايم .. أو مجلة لوك فى مقابل الجريدة التى أردها إليها .. ولكننى كنت أرفض ..

وكان الغلام عندما يشعر أننى فى حاجة إلى تاكسى ..يقفز أربع قفزات فى الهواء إلى الموقف ويأتى بواحد منها فى لمح الطرف .. وكنت أعجب لهذه السرعة الخاطفة ..

وبعد أن أتجول فى المدينة كنت أستريح فى مشرب على الطريق أستعرض من وراء الستر المسدلة العابرين فى الطريق .. وكانت النساء بجيوبهن المشقوقة .. ومشيتهن اللينة هن أكثر الأشياء استلفاتا للأنظار ..

وكانت المدينة بعد الساعة التاسعة والنصف .. وبعد أن تفتح جميع الحوانيت والمتاجر والبنوك تصبح كخلية النحل ..

ولم أكن أنتقى مكانا معينا .. كنت أجلس كما اتفق فى أى مكان أستطيع أن أشاهد منه متعة أكثر ووجوها اكثر إشراقا ونضارة ..

ولكنى كنت أتغدى فى مكان معين فى « كولون » ولقد اخترته لأنه مطعم صغير هادىء .. ولأنه كان يقدم أجود الأطعمة.. بأرخص الأسعار .. ولأننى كنت أرى فيه مجتمعا من النساء والرجال من كل الأجناس ندر أن أراهم فى مكان آخر .. كان كأنه مطعم دولى .. وكان يأتى إليه كثير من الأوربيات والأمريكيات العاملات فى هونج كونج .. وفوق هذا فقد كانت مديرة المطعم حسناء ..

وكنت أختار مائدة قريبة منها .. لأمتع نظرى بجمالها .. وكنت أذهب لأتغدى فى الساعة الواحدة تماما .. وأمكث هناك من الواحدة .. إلى الثالثة بعد الظهر .. أشرب القهوة .. وأطالع الصحف وأتطلع إلى الوجوه .. وكنت أحاول فى الفترة التى يخلو فيها المطعم من الآكلين ويخف الرواد ويتحول إلى قاعة للشاى .. أن أنفرد بالحديث مع المديرة الحسناء .. ولكنها كانت تصدنى بجفاء لا يوصف .. ولقد جعلنى هذا الجفاء أتعلق بها أكثر .. وأكثر ..

وكانت تجيد الإنجليزية .. ومع أنها صينية وولدت فى هونج كونج ولكن ملامحها لم تكن صينية خالصة .. وكنت أقدر أن والدها أجنبى قطعا .. وإذا لم تكن أمها تزوجت بإنجليزى .. فقد أتت بها عن طريق غير شرعى ..

وكان شعرها أسود غزيرا .. وشفتاها غليظتين ..حمراوين .. حمرة قانية .. كانتا تلمعان أبدا .. كأنما سقيتا الشهد منذ لحظات ..

وكانت فتحة عينيها آسرة وفى تقاطيع جسمها وبشرتها .. كل النعومة والفتنة والبياض الذى تتيه به أجمل النساء وكانت إقامتى الطويلة فى المطعم تجعلنى أذهب .. إلى دورة المياه .. لأغسل وجهى قبل أن تنقطع المياه من « كولون » فقد كانت . تنقطع ساعات معينة من النهار .. ولأنى كنت استأنف تجوالى فى المدينة ولا أذهب إلى الفندق وكنت وأنا هابط إلى دورة المياه .. وكانت فى الدور الأسفل .. ألتقى بعمال المطبخ ..

وكان هناك رجل صينى فىالثلاثين من عمره .. كئيب السحنة .. لم يكن وجهه ترتاح له العين ..

وكنت أرى هذا الرجل يصعد إلى الدور العلوى بعد أن تغير المفارش التىعلى الموائد ويجلس بجوار مس تشن .. يشرب الشاى ويتحدث مدة طويلة .. ثم يعود ويهبط كما كان ..

وكان وجهه مدورا وعيناه منفوختين وفى خده الأيمن آثار جروح .. كان كأنه ضرب بمشرط حاد .. فى أكثر من موضع .. ومع أنه كان واحدا من الذين يجيدون التحدث بالإنجليزية فى المحل .. ولكننى كنت لا أسأله عن شىء ..

وكان هذا المطعم الصغير يوجد على غراره كثير من المطاعم فى حى الجولدن جات ، ويوجد هناك كثير من الفتيات الجميلات يخدمن ويبعن الشيكولاتة .. والسجائر للزبائن .. ولكننى فتنت بمس تشن من أول نظرة .. وكانت قدماى تقودنى إلى مطعمها دون أن أشعر .. كنت كالمأخوذ فى الواقع ..

وفى خلال الأسبوع الأول أدركت أنها سيطرت على مشاعرى تماما ..

وكانت تجلس صامتة على البنك قليلة الكلام .. قليلة الحركة .. فى دلال طبيعى .. وكان هذا الدلال .. يسحرنى ..

وكنت أسمعها تحادث الإنجليزيات اللواتى يأتين إلى المطعم ليأكلن ويشربن الشاى بلغة رشيقة .. وتبدأ ابتسامتها الحلوة فى هذه اللحظة ..

وكنت كلما تقدمت لمحادثتها أشعر بعينيها تقولان لى :
ــ لا تضيع وقتى .. بحديث ملفوف ، أنا أعرف غرضك ..
وكنت أتعذب .. وأعود إلى المائدة وأنا أغلى من الغيظ ولكننى كنت أكتم عواطفى .. وفى كل يوم يمر أزداد تعلقا بها .. ولم أكن أنقطع عن الذهاب إلى المطعم أبدا .. وكان الغداء ينتهى عادة فى الساعة الثانية بعد الظهر ويخف الرواد ولكننى كنت أبقى .. أكتب بعض الرسائل أو أتلهى بعمل أى شىء .. وعيناى لا تتركانها أبدا ..

وفى حوالى الساعة الثالثة .. كانت تتحرك من وراء الطاولة .. بعد أن تجمع النقود فى حقيبتها .. وتنزل إلى الدور الأرضى ..

وفى تلك اللحظة كنت أشاهد ساقيها واستدارة فخذيها .. وكل تقاسيم جسمها فى الرداء الضيق ..
ولم تكن ترتدى الرداء الصينى المشقوق الجيوب أبدا .. ثم تخرج من الطابق الأرضى وهى فى أبدع زينة وتحيى الخدم وتنصرف ..

وتبعتها مرة فلاحظت أنها تسكن فى بيت قريب من المطعم ..
وكان فى مدخل البيت دكان صغير فدخلته أتفرج على بعض القداحات حتى تصعد هى .. وعندما بصرت بى وأنا أتبعها ظلت نظراتها جامدة ..

ولقد حاولت بشتى الوسائل .. وبكل مالدى من تجارب أن أذيب هذا الجمود .. ولكننى لم أوفق أبدا .. كانت تنظر إلى دائما .. كشىء لا ترتاح عيناها إلى طلعته .. ولقد جعلتنى أنظر إلى وجهى فى المرآة أكثر من مرة لاحاول أن أعرف ما ينفرها منى .. وأدركت أخيرا أنه ربما يكون الندب الحاد الذى فى الجبهة .. أو العينين الضيقتين .. كعين الصينيين أنفسهم فهى مع كونها صينية ولكنها لا تحب من يشبه بنى جنسها ..

وذهبت إليها مرة ومعى ورقة بخمسة آلاف دولار .. لأفكها ..
فقالت بصوت ساكن :
ــ ليس لدى فكة .. انظر ..
وقلبت الدرج وأرتنى أكثر من عشرين ورقة كبيرة .. وهى تغمزبعينيها استخفافا .. فقد تصورت أننى أريها الورقة .. لأدلل لها على ثرائى ..

ولقد زادنى هذا غيظا .. لتفاهة تفكيرها .. وكنت أود أن أصفعها .. ولكننى كتمت غيظى ..

وذات مرة رأيتها تضع عقدا من اللؤلؤ على صدرها فى حجم العقد الذى اشتريته .. فسألتها :
ــ ألك خبرة باللآلئ .؟ لقد اشتريت عقدا .. مثل هذا وأخشى أن يكون مصنوعا ..
ــ هل هو معك ؟
ــ لا .. إنه فى الفندق ..
ــ هاته غدا لنراه ..

وفى اليوم التالى .. أحضرت العقد .. ونظرت إليه طويلا بإعجاب .. وقالت :
ــ أظنه طبيعيا .. لؤلؤ خالص ..
ــ وكيف ميزته ..؟
ــ إنه ثقيل .. وفصوصه .. غير منتظمة .. به العيوب التى توجد فى اللؤلؤ الطبيعى ..

وسرت كثيرا .. وسألتنى :
ــ لمن اشتريته ..؟
ــ لوالدتى ..
ــ كنت أظنه لعشيقتك ..
ــ ليس لى عشيقات ..
ــ أبدا ؟..
ــ أبدا ....
ــ مظهرك يدل على أن لك عشيقة فى كل ميناء ..
ــ كالبحارة ..
ــ تماما ..

ومددت يدى بالعقد .. إليها .. وفوجئت بالعرض وقالت برقة :
ــ أشكرك ..
ــ لماذا .؟ تفضلى .. يمكننى أن أشترى غيره ..
ــ ليس له مكان فى صدرى .. إن صدرى مشغول ..كما ترى ..

وطويت العقد فى جيبى وأنا مسرور بهذه النتيجة .. رغم رفضها العقد.. وبعد ساعة نزلت إلى الطابق الأرضى .. فوجدتها هناك أمام المرآة تتزين ..

وكانت قد خلعت كل عذارها .. وبدا صدرها كله عاريا وهى تمشط شعرها .. ورأتنى وأنا أنظر إليها بقوة .. ولكنها تجاهلت نظراتى .. واستمرت فى زينتها كأنها لا ترانى ..

ولما خرجت من الباب الخارجى حيتنى لأول مرة بهزة من رأسها ..

وفى اليوم التالى .. بقيت فى المطعم حتى وقت تناول الشاى فى الساعة الخامسة .. وعرضت عليها نزهة فى أى مكان تختاره ..

فسألت :
ــ أين .. ؟
ــ نذهب إلى هونج كونج .. ونتعشى فى المطعم الفرنسى ..
ــ أشكرك .. إنك ترى أنى مشغولة جدا .. ليس لدى وقت ..
ــ ولكن أرجو أن تصحبينى فى جولة ولو قصيرة ..
ــ دعنى أفكر فى الأمر إلى الغد ..
وفى الغد قبلت أن تذهب إلى السينما فى هونج كونج ..

وعندما صعدنا من الباخرة .. وجدت المرأة الصينية التى تبيع مجلة مصورة وكان بجوارها الغلام .. ولكننى لم أستطع مسح الحذاء ومعى مس تشن .. فأعطيت الولد دولارا وفرح به كثيرا ..

وكان الفيلم أمريكيا وآفا جاردنر تهز المشاعر .. فأمسكت بيد مس تشن ولكنها سحبت يدها من يدى بسرعة وقالت هامسة :
ــ أرجوك إننا فى هونج كونج .. ولسنا فى لندن أو باريس ..
فتركت يدها .. وجلست صامتا حتى أضيئت الأنوار ..

وأصبحنا نتقابل كثيرا فى الفترة التى تستريح فيها فى الظهر .. فنذهب فى أى جولة نهارية ..

وحدث فى يوم من أيام الأربعاء .. وكنت قد ذهبت من الصباح أشاهد حى الصيادين فى ابردين .. أن عدت إلى المطعم بعد الساعة الرابعة .. فلم أجدها على البنك .. فتصورتها ذهبت إلى بيتها لتستريح .. ولكننى لما نزلت إلى الدور الأرضى .. أغسل وجهى سمعت همسا .. ثم رأيتها فى المطبخ تعانق ذلك الرجل الصينى القبيح الوجه وتأكل شفتيه وقد غفلت عن كل شىء حولها .. وأسرعت صاعدا حتى لا ترانى .. ثم تناولت زجاجة صغيرة من البيرة وخرجت مسرعا من المطعم .. قبل أن تصعد هى ..

وفى اليوم التالى ذهبت عندها لأتغدى .. فتركت البنك وجاءت إلى مائدتى .. على غير عادتها ..

وسألتنى فى دلال :
ــ لم نرك .. أمس .. يا سيد جعفر .. ؟
ــ كنت فى آبردين ..
ــ بصحبة بعض الفتيات طبعا ..
ــ كنت وحدى ..
ــ هذا غير معقول ..
ــ لماذا تتصورين دائما .. أنى كازانوفا ..
ــ لأنى أعرف الرجل من عينيه ..
ــ دعك من هذا الكلام .. لماذا لا تذهبين معى الليلة إلى مرقص فى هونج كونج .. ؟
ــ غدا يمكن أن أذهب معك إلى مكان أجمل من المرقص ..
ــ أين ؟
ــ سنصعد الهضبة معا .. ونركب الترام الجبلى .. ونرى المدينة الحالمة .. فى الليل ..

ثم رأتنى أخرج العقد اللؤلؤى من جيبى الخارجى .. وأضعه فى الجيب الداخلى فسألتنى ..
ــ لماذا تحمله معك .. هل لازلت تشك فيه وتود أن تعرضه على بعض الخبراء .. ؟
فضحكت ..
ــ أبدا .. يحدث كثيرا أن أنسى الدولاب .. فى غرفتى مفتوحا والأحسن أن أحمله معى دائما كما أحمل كل نقودى ..
ــ هذا أحسن .. فقط حاذر من النشالين ..
وتركتها .. وأنا فى غاية السرور ..

والتقينا فى مساء اليوم التالى بعد أن أغلق المطعم أبوابه ..
وعبرنا الخليج .. وكانت الباخرة تصفر وقالت لى هامسة .. ونحن نصعد سلم الميناء الخشبى :
ــ احترس من النشالين .. لأنهم يكثرون فى الموانى ..

فشددت على يدها شاكرا عواطف قلبها .. ورأيت فى مفترق الطرق .. الغلام ماسح الأحذية هناك .. على الرصيف .. وبجواره أمه .. فأعطيته دولارين .. وأدركت المرأة الصينية وغلامها سعادتى فى تلك اللحظة وتبعانى ببصرهما .. وأنا أركب تاكسى مع مس تشن .. إلى محطة .. الترام الجبلى ..

وبعد ثلاث محطات نزلنا ومشينا بين الأشجار .. وأعطتنى هناك شفتيها فى الظلام أكثر من مرة .. وذقت لذة الشهد الخالص من كل مرارة ..

ثم استدرنا مع الطريق الهابط بين الأشجار .. وهناك بصرت شبح الطاهى القبيح الوجه الذى يعمل فى مطعمها ..

ولما اقتربت من الشبح اختفى ثم استبعدت وجوده فى هذه االمنطقة وأبعدته عن ذهنى بعد عشر خطوات .. وقلت لمس تشن وأنا نشوان ..
ــ لماذا لا نقضى الليل معا .. ؟
ــ أوه هذا .. ولكن أين .. ؟
ــ فى الفندق ..
ــ سنذهب إلى مكان أكثر أمانا فى هونج كونج لأنى لا أستطيع أن أقضى الليل معك فى كولون ..
وكدت أطير من السعادة ..

ونزلنا من الهضبة .. ودخلنا فى شارع صغير قليل الضوء .. وكنت بجوارها صامتا حالما بالمتعة التى لا يحصل على مثلها انسان ثم تقدمتنى لترينى الطريق ..

وفجأة حدث شىء كالصاعقة .. رأيت حبلا .. يلتف على عنقى .. ويجذبنى من الخلف .. فسقطت على الأرض وسمعت وأنا أسقط صرخة .. حادة ..

ولم أكن أنا الذى أصرخ .. كان الذى يصرخ شخص غيرى .
وأحسست بالحبل يفلت من عنقى .. ويدا تمسك بى فتنهضنى .. ولما تبينته بعد أن رجعت إلى أنفاسى ألفيته الغلام ما سح الأحذية .. وكان قد شد عنق الرجل الكئيب إلى جذع شجرة .
وكانت مس تشن قد ابتلعها الظلام .. وعربة مغلقة تقبل مصفرة وتلحس بأنوارها القوية أرض الشارع المرصوف ..
وكانت هذه العربة هى الشىء الوحيد الذى يدل على الحياة .. فى هذه المنطقة وكان عقد اللؤلؤ قد سقط من جيبى .. وتناثرت حباته على الأرض ..

فنظرت إليه فى غير اكتراث .. لم يكن يعنينى ان يكون زائفا أو طبيعيا الآن .. فقد لمست اللؤلؤ الحقيقى .. فى الإنسان ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 8/9/1958 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " ليلة فى الطريق " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================

قصة الركشا

* قصص من هونج كونج
مكتبة مصر 2001




الركشـــا
قصة محمود البدوى


اشتريت من محل هويت وبز بشارع دى فو .. بهونج كونج قميصا أمريكيا من الذى يغسل ويلبس دون أن يكون فى حاجة إلى مكواة . وفرحت به مع غلو ثمنه .. لأنه سينفعنى منفعة ملموسة فى سفرى الطويل ..

ولكن فرحتى لم تتم .. فعندما رجعت إلى الفندق وفتحت اللفافة التى تناولتها من المحل لم أجد فيها القميص ووجدت بدله بيجامة حريرية نسائية .. فابتسمت لتصاريف القدر ..

فماذا أصنع ببيجامة نسائية فى هونج كونج .. كانت البيجامة أنيقة ومن النوع الغالى وتساوى ثمن القميص وتزيد .. ولكن ماذا أصنع بها ..

فكرت فى أن أهديها .. لفتاة يابانية فى طوكيو ... أو أن أقدمها لأى سائحة ألتقى بها فى الفندق .. أو أن أبقيها معى فأهديها لواحدة من قريباتى فى القاهرة ..

وقد جعلنى الخاطر الأخير أنشرها .. لأعرف مقاسها .. وأخصص الفتاة التى تناسبها .. فسقطت منها على المرتبة علبة بودرة ذهبية .. كانت مطوية بين ثناياها .. وكانت العلبة دقيقة الصنع ومطعمة بالصدف ..

ودفعنى هذا إلى أن أحمل اللفافة إلى المحل فى عصر اليوم نفسه ..

وأسفت الفتاة العاملة لما حدث .. وقالت لى إن السيدة صاحبة البيجامة اتصلت بها بالتليفون .. وتركت اسمها ورقم الغرفة التى تشغلها فى الفندق ..

فطلبت من الفتاة أن تتصل بها تليفونيا بالفندق وتحدثها عن رغبتى فى أن أحمل إليها البيجامة بنفسى .. لأنى أعرف موقع الفندق ..

واتصلت بها .. وكانت السيدة تود أن تجىء إلى المتجر ولكننى أعفيتها من هذا المشوار ..

وخرجت من المتجر .. وعبرت الخليج واتخذت طريقى .. إلى فندق ميرامار بشارع كيمبرلى رود بكولون ..

وركبت المصعد .. وسألت الغلام .. الذى كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة عن السيدة كريستينا بالغرفة رقم 86 .. فقادنى إليها .. وسط مظهر من مظاهر الفخامة والأناقة اللتين تتميز بهما فنادق كولون ..

وضغطت على جرس الباب .. وفتحت لى شابة طويلة العود .. ونظرت بعينين زرقاوين إلى كيس الورق .. الذى فى يدى ..

وقلت لها بالإنجليزية :
ــ أرغب فى مقابلة الآنسة كريستينا ..
ــ إننى كريستينا ..
ــ لقد جئت لك بالبيجامة
ومددت يدى بالكيس .. وكنت أود أن أذهب ..
ــ شكرا .. تفضل .. حتى أجىء لك بالقميص ..

وأدخلتنى إلى صالون صغير .. ملحق بغرفتها .. واعتذرت لها عن الخطأ الذى حدث بسببى .. لأننى تناولت لفافتها من فوق الطاولة وأنا أحسبها لفافتى ..

فقالت بدماثة وهى تطيل النظر إلىّ بعينيها الواسعتين ..
ــ إن هذا الخطأ .. أتاح لنا فرصة لنلتقى بشاب هندى .. ونحن فى طريقنا أنا وزوجى إلى بومباى ..
ــ لست هنديا ..
ــ حقا .؟
ــ إننى مصرى .. وقد رأيت بومباى .. ويمكننى أن أحدثك عنها ..
ــ جميل .. هل تشرب قهوة .. أو أطلب لك بعض العصير المثلج .. اليوم شديد الحرارة ..
واخترت العصير .. لأن الحرارة كانت شديدة حقا ..

وكانت السيدة كريستينا ترتدى فستانا أبيض خفيفا ..من قطعة واحدة .. قصير الأكمام .. ومفتوحا عند الصدر .. يتناسب مع هذه الحرارة .. وكانت مقصوصة الشعر .. ينسجم ثوبها على جسمها ويبرز تقاطيعه ..

وبعد أن شربت العصير .. دخل علينا رجل سمين من الباب دون استئذان فخمنت أنه زوجها ..

وابتدرته قائلة :
ــ ألبرت .. إن السيد مصرى .. وقد زار بومباى .. وسيحدثنا عنها ..
فقال ألبرت ..
ــ حقا ..؟

ووضع آلة تصوير ــ كان يحملها ــ جانبا .. ونظر إلىّ فى ابتسام .. وكان سمينا وعمره ضعف عمر زوجته .. ويبدو من شكله وهندامه وحديثه أنه رحالة ويحب عشرة الناس .
وكانت كريستينا أكثر حيوية وحركة منه .. وأكثر تعطشا لمعرفة الغريب ..

ولاحظتها جيدا .. وهى رائحة وغادية فى الغرفة .. كانت فى الثانية والعشرين من عمرها .. طويلة العود .. وكانت بشرتها ناصعة البياض نقية .. ولاحظت أن أنامل يدها وهى تقدم لى كوب العصير طويلة مع دقتها ورقتها .. وأن الأظافر طويلة أكثر مما رأيت فى أنامل الحسناوات ..

ولما نظرت إلى ساقيها بإمعان رأيت شعرا خفيفا كالذى بدا فى سيقان بلقيس .. عندما كشفت عن ساقيها .. منذ آلاف السنين .. وهى تخوض فى عرشها ..

وسألتنى برقة وهى تنظر إلىّ بقوة ..
ــ هل تسافر على خطوط شركة اسكندنافيا .. مثلنا .. أحسبنى رأيتك فى بانكوك .. هل رأيت الحر .. الذى هناك ..؟
ــ إن الحر فى بومباى .. ضعف هذا مائة مرة ..
ــ أوه .. إذن ستشوى جلودنا هناك ..
وأيدت هذا بحركة من يدها على ثوبها .. كأنما تود أن تخلعه ..

وكنت أقدر أنها دانمركية .. أو هولندية .. ثم عرفت أنها سويدية وزوجها هولندى وأنهما فى سياحة طويلة مثلى إلى الشرق الأقصى ..

وبعد حديث عن هونج كونج .. وبومباى .. تناولت منها القميص وأنا أشكرها بشدة وحييتهما وانصرفت ..

والتقيت بهذه السيدة مرة أخرى بعد أسبوع وكان معها زوجها .. فى ردهة بنك شنغاهاى .. بهونج كونج ..

وفاض وجهها بالبشر لما رأتنى وقالت ..
ــ هالو .. السيد مختار ..
ــ هالو .. مدام كريستينا .. هالو مسيو ألبرت .. لازال اسمى فى الذاكرة .
ــ بالطبع ..
وخرجنا من البنك معا ..

وركبنا الباخرة .. وعبرنا الخليج وبعد أن نزلنا على رصيف شبه الجزيرة .. عزمت عليهما بفنجال الشاى فى « المزرعة » فقبلا ..
وبعد أن شرب ألبرت الشاى .. واستراح قليلا .. أبدى رغبته فى أن يذهب إلى شركة السياحة ليحجز تذكرة له ولزوجته .. إلى مانيلا ..

وقال لزوجته ..
ــ يمكنك أن تنتظرينى هنا .. إذا كان المشوار يضايقك ..
فقالت ..
ــ سنتلاقى فى الفندق على الغداء ... ربما تجولت فى المدينة ..
وسلم علينا وانصرف .. ولاحظت أنه يحمل آلتين للتصوير ..
فحدثت زوجته عن هذا ..
فقالت باسمة ..
ــ إنه مغرم بالتصوير .. واحدة جديدة لايكا .. اشتراها أمس من هونج كونج .. والأخرى قديمة .. أحسبه سيذهب إلى الخليج ليصور .. قبل ذهابه إلى شركة السياحة .. وربما لا يذهب إلى الشركة وينساها فى غمرة ما يلتقط من صور ..
ــ إلى هذا الحد .. هو مغرم ..؟
ــ إلى هذا الجنون ..

وجلسنا نتحدث ولاحظت أنها تجيد الإنجليزية .. وتتحدث قليلا بالفرنسية والألمانية .. وأنها تكثر من التدخين .. وألقت بالسيجارة الرابعة .. أو الخامسة فى الطفاية ..

وقالت وهى تثبت عينيها على وجهى بابتسام :
ــ يمكننا أن نتمشى .. قليلا فى المدينة .. إذا لم يكن لديك موعد ..
ــ بكل سرور ..
ونهضنا معا .. وأخذنا نتجول فى مدينة « كولون » ..

وكانت عربة الركشا .. تعترضنا بعد كل خطوة .. لنركب فيها .. ويلح الرجل الذى يجرها رغم رفضنا ..

وأخيرا قلت لكريستينا ..
ــ هل تركبين فى جولة قصيرة ..؟

فركبت فرحة .. وركبت بجوارها .. وشعرت بسعادة لا توصف رغم أنى كنت متحفظا جدا .. وهى بجوارى فلم ألتصق بها فى عربة الركشا الضيقة .. وكان المجال يدعو إلى الالتصاق ..

وكانت العربات .. والسيارات تمر بنا عن قرب حتى تكاد تلتصق بنا ..
وكانت كريستينا تضحك لهذا وسألتنى ..
ــ هل رأيت لندن ..؟
ــ أبدا ..
ــ إن ترامها .. وسياراتها مثل هذه ..
ــ والخلاف الوحيد .. أنه لا توجد ركشا هناك ..
ــ أجل .. نسيت هذا ..

ومر علينا أطفال .. خارجون من المدرسة .. فتوقفت حركة المرور كلها حتى عبروا الشارع .. وقالت كريستينا بقلب منشرح ..
ــ ما أجمل ثيابهم .! وأنضر وجوههم ..!

وظلت تتبعهم ببصرها بلذة .. وكأنها تتمنى أن تلتقط واحدا منهم وتجلسه معنا فى العربة ..

وبعد جولة طويلة .. نقدت السائق أجره ومشيت مع كريستينا حتى باب فندقها وقبل أن نفترق دونت اسم الفندق الذى أنزل فيه وعرفت رقم غرفتى ..

وحوالى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى .. حدثنى زوجها فى التليفون .. وقال لى إنه يسعده هو وكريستينا لو أرافقهما فى جولة فى الترام الجبلى ..

ومع أنى زرت هذه المنطقة السياحية من قبل أكثر من مرة ولكن قبلت الدعوة ..

وكان ألبرت يلبس قميصا .. قصير الأكمام .. على بنطلون من التيل الأخضر .. ومعه آلتا التصوير وكريستينا تلبس صديرا أبيض وجونلة قصيرة إلى الركبة وليس بيدها حقيبة .. وقد جعلنى هذا أنظر إلى أظافرها أكثر وأكثر وأفزعنى طولها على ضوء المصباح أكثر من أى مرة شاهدتها فيها ..

وصعدنا إلى الهضبة .. ثم انحدرنا إلى خليج استانلى .. ولم نذهب إلى ابردين لأننا أحسسنا بالجوع .. وكان يتحتم علينا أن نتغدى فى هونج كونج .. لأن ساعة الغداء فاتتنا فى فنادقنا بكولون .. فتغدينا فى مطعم صينى حافل بالأطباق المختلفة ..

ولما خرجنا إلى الشارع شاهدت على الرصيف المقابل اعلانا عن قصة « فيرن » حول العالم فى ثمانين يوما .. وكانت قلوبنا تواقة إلى هذا الفيلم فدخلنا .. مع أن الساعة كانت الواحدة والنصف بعد الظهر ومضى من العرض نصف ساعة ..

وأجلس الزوج المهذب كريستينا بينى وبينه .. وأخذنا نتابع الرواية على الشاشة ونحاول أن نفهم الحوادث التى سبقتنا .. ثم طال جلوسنا وطال صمتنا .. لأن الرواية طويلة ..

وفجأة أحسست بكريستينا تميل على أذنى وتهمس :
ــ أريد أن أدخن سيجارة ..

فنظرت إليها فى الظلام ولم أجاوب على رغبتها إلا بابتسامة بلهاء .. ورأيتها تميل على أذن زوجها ..

ورأينا أن نترك نحن الثلاثة الشاشة لندخن سيجارة فى خارج الصالة ثم نعود إليها ..

وعندما تحركنا فى الممر .. كانت كريستينا تمشى أمامى .. ولم أر فى الظلام من جسمها غير ساقيها العاريتين .. وبدا لى فى هذه المرة أنها أزالت من فوقهما الشعر الخفيف النابت ..

وقفنا نحن الثلاثة فى بهو السينما الخارجى ندخن بنهم .. والظاهر أن منظرنا كان لافتا للنظر .. فقد رأيت شخصا يرقبنا بعينى صقر .. على الرصيف المقابل ..
وقبل أن ندخل وثب نحونا .. قطع الشارع فى وثبتين .. وأصبح بجوارى ..
وقال هامسا بالإنجليزية :
ــ هل تريد أن تشاهد رقصا مثيرا .. وتدخن الأفيون .؟
ونظرت إلى صف أسنانه الذهبية وقلت سريعا ..
ــ لا .. اذهب ..
ــ إنه مثير .. ولن تدفع كثيرا ..
ــ لا .. اذهب .. اذهب ..
وكانت كريستينا تنظر إلينا وقد انفرجت ثناياها ..
وسألنى ألبرت :

ــ ما الذى يطلبه ..؟
ــ يدعونا .. إلى رقص صينى ..

وتحول الرجل إليه .. وأخذ يحادثه هامسا .. وسألنى ألبرت :
ــ ولماذا لا نذهب ..؟
ونظرت إلى كريستينا واحمر وجهى .. وقال ألبرت :
ــ إنها تسر جدا .. من هذه المناظر ..
وسألت كريستينا ..
ــ أى مناظر ..؟ إننى فى كل الأحوال معكما .. أينما تذهبان ..
وضحكنا.. واتفقنا على أن نقابل الرجل الصينى ذا الأسنان الذهبية ـ عند رصيف البواخر فى الساعة التاسعة ليلا ..
وعدنا إلى صالة السينما مرة أخرى ..

* * *

وفى الساعة التاسعة وجدنا الرجل فى انتظارنا .. وكانت كريستينا متأنقة فى ملبسها ومتعطرة .. كأنها ذاهبة إلى حفلة سواريه فى الأوبرا .. أما زوجها فكان كما تركته فى الساعة الخامسة لم يغير قميصه ..

وركبنا عربتين من عربات الركشا .. إلى المرقص الخفى عن العيون .. وركبت كريستينا معى فى هذه المرة أيضا .. وكان يمكن أن أركب ومعى الدليل ولكن ألبرت جذبه إلى عربته بلباقة .. وسرنا فى شوارع ضيقة ومظلمة وأنا أتوقع بعد كل خطوة شرا .. وأقدر أنها مصيدة .. وكنت أسمع عن كل حوادث هونج كونج التى تقع فى الظلام .. ولكن وجود كريستينا بجوارى فى العربة كان يطمئننى .. وجعلنى أشعر بقوة تجعلنى قادرا على مواجهة كل احتمال ..

وفجأة دخلنا فى تيه من الشوارع الصاعدة والهابطة .. ثم اخترقنا صفا من الأشجار المتعانقة المتشابكة ..

وقالت كريستينا .. وقد رأيتها تضع يدها على خدها : أنها تشعر بأنها محمومة .. من الغروب .. وكان يجب أن تستريح فى الفندق .. بدل هذه الحماقة ..

وكان واجبى كجنتلمان أن أمسك بيدها .. وأجس مبلغ حرارتها ولكننى لم أفعل ونظرت إلى أظافرها مرة أخرى ..ورأيت أن المسافة بينى وبين ثوبها الذى على فخذها .. أكثر من سبعة سنتيمترات فجعلتهما عشرة ..

وقبل أن نصل إلى الشارع الذى فيه المرقص .. ! توقفت الركشا .. ونزلنا ..

ومشينا وراء الدليل .. حتى توقف وراء باب صغير .. وقرع الجرس .. وأطل رأس صغير من كوة .. ثم فتح لنا الباب ..

وانحدرنا عدة سلالم ثم اجتزنا دهليزا معتما .. أفضى بنا إلى قاعة فسيحة صفت فيها ست مناضد على الجوانب والأركان .. وكانت الإضاءة خفيفة .. والقناديل معلقة من السقف .. والدخان يعبق المكان .. والجو كله شرقى حالم ..

ولم يكن هناك رقص .. ولا ضربة دف .. وكان السكون يخيم رغم وجود أربعة من الصينيين فى ركن من المكان .. وكانوا يدخنون وأمامهم فتاة شاقة ثوبها وجالسة على حشية أمامهم تنظر إليهم فى صمت ..

ولما جلسنا إلى مائدة واحدة مستطيلة .. سمعنا صوت آلة أشبه بالقيثارة .. وغناء صينيا من نغمة واحدة .. وكان يقطر حزنا ..

وتقدم منا الساقى الصينى فسألنا بالإنجليزية عما نشرب .. واخترنا النبيذ ..
ووضع أمامنا .. الكؤوس ..

وبعد قليل أقبلت نحونا فتاة صينية حلوة .. وقدمت لكل واحد منا .. شيئا أكبر من البيبة .. ولم أكن دخنت الأفيون قط .. ولا أعرف كيف يدخن ..

وعلمتنى الفتاة الصينية .. وعلمت كريستينا وألبرت .. ودخنا كثيرا ودخنت قليلا .. كنت أتظاهر بمجاراتهما .. فى السباق ..

وضحكنا وشربنا .. حتى قرب الليل من منتصفه .. وعندما بدأ الرقص العارى لم نشاهده باهتمام وشوق .. كانت جفوننا ثقيلة .. والدخان يغشى أبصارنا ..

* * *

وعندما رافقت كريستينا وألبرت فى آخر الليل إلى فندقهما .. كان ألبرت يتماسك .. وخفت أن يسقط من زوجته فى الممر .. فرافقته إلى غرفته.. واضطررت أن أحمله معها .. إلى سريره .. وخلعت كريستينا له حذاءه .. وغيرت قميصه ثم طرحته على الفراش ..
وقلت لها بعد أن عادت إلى الصالون ..
ــ إنه مجرد تعب .. وسيفيده النوم .. فاطمئنى عليه .. ونهضت ..
فسألتنى وعيناها تلمعان ..
ــ هل أنت ذاهب ..؟
ــ أجل .. إننى أكثر منه تعبا ..
ــ أرجوك أن تبقى قليلا .. إننى خائفة .. وفندقك قريب .. تستطيع أن تصله فى خمس دقائق ..

فجلست أمامها .. أنظر إلى عينيها ورأيتهما .. أشد بريقا من قبل وأكثر فتنة ..

ودخلت على زوجها ثم عادت .. فوجدتنى واقفا .. أحرك ستر النافذة الحريرى وأنظر من فرجة صغيرة إلى الطريق ..

فوقفت بجوارى لحظات .. ولم أشعر بها وهى تلتصق بى .. وشددتها إلى صدرى بقوة ودخلنا وراء الستار ..

* * *

والمرأة التى كنت أبتعد عنها فى عربة الركشا .. وتبتعد عنى بمقدار عشرة سنتيمترات .. أصبحت تغرس أظافرها فى لحمى ولا أحس بها من فرط الأفيون .. ولا تحس هى بما تفعل لما غشى عقلها وحسها من ضباب ..

والشىء الوحيد الذى تنبهت إليه فى غمرة عواطفنا أننى أحسست بالباب المغلق على البرت .. يفتح ثم يغلق ثانية ..

ولما دخلت عليه بعد قليل وجدته نائما .. كما تركناه .. وليس هناك ما يدل على أنه تحرك أو حتى تململ .. فنفيت خاطر الباب عن رأسى ..

وفى الصباح التالى تحدثت مع ألبرت فى التليفون واطمأننت على صحته وشكرنى على تعبى وسهرى بجوار فراشه ..

وحدثته بأننى مسافر إلى طوكيو فى الصباح التالى .. فجاء هو وكريستينا إلى غرفتى فى الفندق ليودعانى ..

وكنت أرتب حقائبى .. وساعدنى هو وزوجته فى وضع الأشياء المبعثرة التى تسوقتها فى الحقائب .. وحزمنا الحقائب الثلاث ثم نزلنا إلى الطريق نقضى آخر ليلة فى هونج كونج معا ..

واتفقنا على أن نلتقى فى بومباى فى الخامس والعشرين من ديسمبر ونقضى عيد الميلاد فى فندق ( تاج محل ) ..

* * *

وفى الطريق من هونج كونج إلى طوكيو .. لم أكن أفكر إلا فى كريستينا .. وفى الجليد الذى تحول إلى شعلة من اللهب ..

وفى مطار طوكيو .. وقفت وراء الطاولة المستديرة .. وراء حقائبى .. وسألنى الكشاف ..
ــ هل معك .. سجائر .. هل معك ويسكى ..؟
ــ أبدا ..
ــ هل معك نقود .. من أى نوع .. أى عملة ..؟
ــ إن معى شيكات سياحية فقط .. وقد بينتها فى الإقرار ..
ــ ولا توجد نقود من أى نوع ؟
ــ إطلاقا ...
ــ تسمح تفتح الحقائب ..

وفتحت الحقائب الثلاث .. وأنا أنظر إليه بثبات .. وفجأة ارتجف قلبى .. وسال العرق من خدى .. فقد أخرج من حقيبة من الحقائب رزمة من الينات اليابانية ... وعقوبة هذا ليست المصادرة فقط ولكنها الحبس .. وبرزت أمامى صورة ألبرت فى الحال وهو يساعدنى فى غرفتى بالفندق .. وأدركت أنه عرف كيف ينتقم .. بدهاء وصبر ..
================================
نشرت فى مجلة الجيل 29/8/1960 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================

قصة الفارس




الفارس
قصة محمود البدوى


قضى مراد ستة أيام فى هونج كونج يتجول فى شوارعها ويشاهد كل ما فيها من عجائب ..

وفكر فى أن يرى " أبردين " أيضًا قبل سفره ويشاهد هؤلاء الصينيين الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء ، ويتغذى بأكلة السمك الشهية على ظهر السفينة العائمة المشهورة بأطباقها ..

وجلس وحده بعد الغداء على ظهر السفينة يرقب كل ما حوله فى استغراب .. وكانت الشمس ترسل آخر أشعتها الصفراء على الماء .. والزوارق تتأرجح من الموج فى صفوف طويلة منتظمة . وأشرعتها الحمراء منصوبة وقناديلها قد توهجت قبل غروب الشمس ..

وكان المنظر كله يأخذ بلب المشاهد وله طعمه الحلو فى نفسه أكثر من أكلة السمك الشهية فى ساعة الغداء .. فإن كل ما فى الأكلة من طرافة هو اصطياد السمكة .. وهى حية تنتفض وتحاول الفكاك من السنارة .. ثم سحبها سريعًا بحالتها هذه إلى المطبخ وتقديمها بكل ما فيها من حيوية إلى آكلها ..

نسى أكلة السمك ومشهياتها وأخذ يتطلع إلى ما حوله وكانت المنازل القائمة على التل تموج بالغسيل المنشور ..
وهو يرفرف فى بياض ناصع ، ويغطى عينى المشاهد فى دفعة واحدة .. كأنما تحركت بمفتاح آلى ..

وانطلقت ريح الشتاء تهب بعنف فأخذت الزوارق تتراقص وتتلاعب قناديلها مع الموج ..

وكان مراد قد جاء إلى السفينة بزورق تحركه فتاة صينية ورغم أن الصينيات يغلب عليهن قصر القامة .. ولكن هذه كانت طويلة ملساء العود .. وفى فتحة عينيها الجانبية الجمال الصينى الآسر ..

ومع أنها بطيئة الحركة والفتيات الأخريات العاملات فى الزوارق كن يسبقنها فى كل جولة .. ولكن مراد اختارها هى من بينهن جميعًا وانتظرها حتى رست أمامه ..

وقالت له بإنجليزية سليمة بعد أن نقلته إلى السفينة :
ــ متى تعود .. ؟
ــ بعد ساعتين ..
ــ نادنى وسأظل قريبة منك ..
ــ يسرنى هذا ..

وابتعدت وجلس إلى طاولة السفينة وهو يلاحقها بنظره ، كانت تحرك زورقها بالمدراة من الخلف وهى واقفة منتصبة القامة وقد غطت شعرها الأسود الطويل بقبعة كبيرة تقيها المطر والريح .. وغطت صدرها بصدار ضم كل عظمها ولحمها بإحكام .. ولكنه أبرز نهديها واستدارة كتفيها فكأنما كشف الصدار عن المحاسن بدلاً من أن يغطيها ..

وتحت هذا الصدار سروال طويل يصل إلى قدميها مما اعتادت الملاحات لبسه فى هذه الزوارق ..

ولكنهن إذا خرجن من الماء إلى الأرض لبسن الجونلة المفتوحة من الجانبين ككل الصينيات فى هونج كونج .. وأحكمن دثار الصدر ..

ورآها تجلس فى ضباب الغسق وقد تركت الزورق لفعل الموج والريح ..

وبعد أكلة السمك أسف لأنه لم يركب معها على التو ويعود .. ولماذا قال لها بعد ساعتين ولا شىء جديد سيراه وهو جالس وحده وقد خلت السفينة من روادها وتغير الجو فجأة ..

وفى الوقت المحدد جاءت هى ورست تحته قبل أن يشير إليها .. وقفز إلى الزورق .. وكانت قد أعدت له فى المؤخرة مكانًا مريحًا غطته بتندة ليكون بنجوة من الريح ..

وعندما جلس وحركت الزورق رآها بصورة جديدة .. البنطلون الطويل الأزرق والسترة من لونه والصدار الأحمر الضاغط ..!

واتجهت سريعًا إلى الشاطئ والحركة إلى هنا لا تأخذ وقتًا طويلاً ..

قال لها :
ــ أريد أن أخرج إلى البحر الواسع وأرى الخليج .. فبوغتت بهذا الطلب وتجهم وجهها رغم دماثة طباعها ..

وقالت بنبرة استنكار ..
ــ فى هذا الجو ..؟!
ــ أجل أرجوك وأنا لا أجىء إلى هنا كل يوم ..
ــ كما تحب ..

وكانت سحابة من الامتعاض لا تزال على وجهها .. وحولت الزورق إلى الخليج ثم جلست تصنع له الشاى وقدمت له الكوب ساخنًا ..
ــ سيجعلك تشعر بالدفء .
وذاقه وقال :
ــ جميل وفيه سكر أيضًا ..
ــ أجل إننا نشربه بالسكر كالإنجليز هنا ..
ــ ولكن فى الصين الأم لا يشربونه بالسكر ..
ــ هل كنت هناك ..؟
ــ نعم عملت سنتين فى بكين ..
ــ فى التجارة ..؟
ــ فى السفارة ..
ــ هل أنت سفير .. ؟
ــ أقل من ذلك بكثير مجرد موظف صغير ..
ــ لا تقل هذا بل أنت كبير وكبير ..
ــ شكرًا لهذا الإطراء ..

وسألته :
ــ أين ذهب صاحبك .. ؟
ــ لم يكن معى صحاب ..!
ــ ولكنى رأيت جنتلمانًا بصحبتك على ظهر المركب ..
وأدرك أنها كانت تراقبه من عرض البحر ..
ــ إنه سائح وكان يسألنى عن الجو فى نيودلهى فى هذا الفصل من السنة لأنه ينوى الذهاب إلى هناك ..
ــ وأنت ..؟
ــ وأنا ذاهب إلى طوكيو ..
ــ جميلة جميلة ما أسعدك بالعمل فيها ..

واشتدت الريح وتأرجح الزورق .. وسألته :
ــ أتعود ..؟
ــ أبدًا ..

وتراقصت الزوارق القريبة والبعيدة على سطح الماء وأصبح الماء كله أنوارًا تتراقص وتذهب وتجىء تبعًا لحركة الريح ودفعها للزوارق ..
هؤلاء هم الناس الذين يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسألها :
ــ هل ولدت هنا .. ؟
ــ أجل ..
وتركت ما فى يدها وجاءت وجلست بجانبه ..

وقالت :
ــ شاى آخر .. ؟
ــ لا شربت ما فيه الكفاية ..
ــ نبيذ .. ؟
ــ شكرًا ..
ــ لماذا لم تحمل فى يدك معطفًا .. الجو متقلب .. ؟
ــ لم أكن أتصوره سيصل إلى هذه الدرجة من السوء ..

وفجأة ظهر شىء فى المقدمة جعله يفتح عينيه فى عجب .. خرج طفل صغير من بطن الزورق يمسح عينيه .. ونظر مراد إليه طويلاً وفهم ..
ــ طفلك .. ؟
ــ نعم وكان نائمًا وأيقظه الريح ..

وتحركت إليه واحتضنته وقدمت له الشاى ..
فقال لها مراد بابتسامة :
ــ الشاى سيجعله لا ينام ..
ــ وأنا أحبه ساهرًا ..

وابتسمت بتوريه ..
ــ جميل مثل أمه ..
ــ شكرًا ولماذا لا يكون مثل أبيه .. ؟
ــ لم أر والده بعد ..
ــ ولن تراه ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سافر بعيدًا بعيدًا ..

وفتح الطفل عينيه وأخذ ينظر إلى الغريب بفضول ثم بغضب ..
فقالت الفتاة تخاطب طفلها بالإنجليزية :
ــ والآن أيها الفارس أنت فى مبارزة مع الغريب .. مع هذا الجنتلمان .. وأيكما يفوز فى المبارزة سيظفر بالأنثى ..

وضحك مراد وقال لها برقة :
ــ لا داعى للمبارزة وأنا منهزم ومنسحب من أول جولة ..
ــ ولماذا هكذا دون صراع .. ؟ أنا أحب أن تتبارزا .. !
ــ واحتضنت طفلها وترقرقت فى عينيها الدموع ..

وقالت فى حزن :
ــ كلما فكرت أن أعيش لحظات لنفسى أجده صاحيًا ..

ونكس مراد رأسه وقال بصوت فيه بعض ما فى نفسها من مرارة :
ــ تلك ضريبة الأم .. وأين تذهبين منها ويكفيك فخرًا أنك مطوقة بها ..

وكان يود أن يقول لها إنه أكثر منها لوعة وعذابًا ولكنه أمسك .. ورأت فى وجهه الشىء الذى لا تحب أن تراه فى وجه المسافر .. المسافر الذى سافر ليتمتع بمباهج الحياة وينسى متاعبها فى الدنيا الجديدة ..

وسألته لتغير من تسلسل خواطره :
ــ ما الذى كان يريده منك هذا الرجل على الساحل ولماذا ثار غضبك .. ؟
ــ لقد طالعنى بصف من الأسنان الذهبية وعرض علىَّ أن أركب الركشا .. فقلت له إننى لا أركب عربة يجرها إنسان .. وكرر الطلب فأثارنى ..
ــ ولكنك مخطئ ، ففى داخل العربة ستجد حسناء منتظرة وتسليك فى الطريق .. !
ــ حقًا ..؟! لو علمت هذا لركبت على الفور .. !
وضحكا ..

وأحسا بالمطر يهطل بغزارة فتركا سطح الزورق وجلسا متجاورين تحت التندة بعد أن غطت طفلها ولكنه ظل مفتوح العينين يلاحظ الغريب بفضول ..

وجاءت الفتاة بدثار من الصوف وطوقت به مراد وقالت :
ــ إن هذا بدل المعطف ..
ــ هذا كرم منك لم أعهد مثله ، ولا أدرى كيف أشكرك ..

واشتد المطر واكفهر الجو فغطت الزورق كله بالمشمع السميك وجلسا يرقبان الليل ..

وسألته وهى تعطيه كوبًا آخر من الشاى ..
ــ أين تقيم ..؟
ــ فى الجولون جات ..
ــ إنها ممتلئة بالجنود الأمريكيين .. وكيف تعيش مع صخبهم .. ؟ إنهم يسكرون ويسكرون وشبح حرب فيتنام يطاردهم .. فهم دومًا فى رعب وصخب ورغم مضى سنوات طويلة على انتهاء الحرب ولكن الشبح يعود بكل ما فيه من رعب ..
ــ فى قولك الحق . ولكنى نزلت من الطائرة إليها مباشرة .. دلنى عليها زميل ولم يكن عندى وقت للاختيار ..

ونظر إليها طويلاً وتردد قبل أن يلقى السؤال ثم ألقاه :
ــ ألا توجد غرفة مفروشة هنا على الساحل فى هذه البيوت .. ؟
وضحكت ..
ــ لماذا تضحكين .. ؟
ــ إن الصين أكثر منكم شرقية ومراعاة التقاليد .. هل تؤجر أنت غرفة فى بيتك لغريب .. ؟
ــ أبدًا ..
ــ وكذلك الصينى لا يؤجر غرفة من مسكنه قط وإنما يمكن أن تجد هذه الغرفة عند الأجانب الذين يقيمون فى هونج كونج أو كولون ، أما عند الصينيين فلا ..
ــ فهمت .. فهمت ..
ــ وأنذر الجو بالعواصف وحركت هى المدراة من الخلف ..

وسألته :
ــ ألا تفكر فى العودة ..
ــ أبدًا سأقضى الليل هكذا فقد تقطعت بى الأسباب إلى كولون .. الباخرة التى تعبر إلى هناك أحسبها توقفت فى هذه الساعة ..

وتركت المدراة وجلست بجانب طفلها بعد أن غطته ولفته جيدًا ..

وكان المطر لتحركها وفعل الريح قد بلل صدارها .. فقال لها مراد :
ــ إن هذا سيئ ويعرضك لالتهاب الرئة فأخلعيه وألبسى غيره ..
ــ سأفعل هذا ولكن أدر وجهك أولاً والأحسن أن أغطيك ..
وغطته فضحك ..

وبحرص الصينية التى لا تحب أن تكشف صدرها لأحد ، وقد تكشف فخذيها فى الطريق بالجونلة المفتوحة فإنها خلعت الصدار بسرعة ولبست غيره ..

وقالت ضاحكة :
ــ الآن يمكنك أن تنظر ..
ــ أنا لا أرى شيئًا إلا وهج عينيك .. فالظلام تراكب وقد خرجنا إلى عرض البحر وبعدنا عن الزوارق ..
ــ نعم وهذا ما رغبت فيه ..

وسألها :
ــ منذ مدة تعملين فى البحر .. ؟
ــ قبل أن يولد هذا ..
وأشارت إلى طفلها ..
ــ والعمل مربح .. ؟
ــ هذه حرفة الأجداد منذ مئات السنين فلا يحسن القيام بها سوانا فى طول الأرض وعرضها .. انظر أين نحن الآن من الشاطئ ومن الموج والمطر والريح ولو كان فى هذا المكان ملاح غير صينى لابتلعك الموج من أول غمزة فى مثل هذا الزورق الصغير .. ولكنها حرفتنا وفننا ..

وشعر بها تزهو على البحر والموج والريح والعواصف .. شعر بها فوق كل تقلبات الجو وتقلبات السحاب كجنية فى يدها خاتم السحر .. فلا شىء يروعها ولا شىء يفزعها ..

ولا يدرى لماذا فكر فى هذه اللحظة فى النقود التى سيعطيها لها مقابل كل هذا التعب وتحسس الدولارات الهونج كونجية ..
وقال لنفسه : إن لم تكن كفاية سيعطيها جنيهات إنجليزية فلا يغمط حقها أبدًا ..

* * *

ورآها فجأة متجهمة تنظر إلى موقع من البحر وقد علا وجهها الرعب ، ونظر حيث تنظر فلم ير غير سواد الفحم وزبد البحر قد تحول إلى مداد ودوامات تلف وتدور .. وظلت هى على حالها من الفزع الأخرس ..

فتناول يدها وقال لها بعطف :
ــ اجلسى لقد تعبت وسنخرج وحدنا من هذه الدوامة سيخرجنا الموج ..
ــ إن الدوامة لا تخيفنى وقد اعتدت عليها وعلى الخروج منها ، ولكننى تذكرت فى هذا الموقع شيئًا حسبتنى نسيته لمر الأيام والأعوام ولكننى أدركت الآن أن هذا توهم .. فالذى حدث سيظل محفورًا فى أعماق نفوسنا مهما مرت عليه الأيام ومهما حاولنا أن نطمسه أو نداريه أو نلف حوله ونغطيه ..

ونظرت إلى الطفل وأحكمت غطاءه وشربت جرعات من النبيذ ..
وسألت مراد :
ــ أتحب أن تشرب .. ؟
ــ سأشرب من قدحك ..
ــ هكذا بسرعة أصبحت ولهانًا ..
ــ نعم .. وفى " هانتشو " ركبت مع فتاة صينية فى زورق فى بحر يغطيه ورق اللوتس وقلت لنفسى هذه أجمل فتاة فى الصين .. فلما جئت أبردين ورأيتك وركبت زورقك قلت لا إن أجمل فتاة فى الدنيا هى صينية هنا فى أبردين ..

ورأى القتامة السوداء تنزاح عن وجهها رويدًا رويدًا وهى تطالعه بعينيها وقد سرت من كلماته ..

وقالت برقة :
ــ لقد طلبت منى فى هذا الليل أن أخرج بالزورق إلى هذا المكان فخرجت من أجلك .. والآن انظر معى إلى فم البحر الواسع إنه يبتلع كل شىء وفى بطنه الأسرار .. أسرار الدنيا .
منذ سبع سنوات وقبل أن يولد هذا الغلام ويوجد وكنت متزوجة حديثًا من " يونج " جاء إلى الشاطئ مثلك تمامًا شاب إنجليزى مهذب ، ونحن نعرف الإنجليز من سحنتهم من أول نظرة .. جاء وكان يتطوح من السكر وطلب منى أن أنقله إلى السفينة وأنا أرفض أن أتعامل مع هذا الصنف من المخلوقات لأنه سيسبب لى متاعب ، فرفضت ولكن صينيًا كهلاً كان على الشاطئ حذرنى من الرفض وقال لى إن أى إنجليزى يمكن أن يسحب منى رخصة الملاحة .. ويسحبها إلى الأبد .. ولمحت والصينى يتحدث ، ظل كونستابل على الشاطئ ، فأركبت هذا المخمور على الفور وابتعدت به عن الزوارق ..
وعند السفينة العائمة لم ينزل إليها .. قال لى إنه يريد أن يرى الخليج فدرت به إلى هناك ..
ولاحظت بعد كل حركة مدراة أن عينيه تلاحقاننى بنظرة فيها من الشهوة ما اختبرت مثلها مرارًا ..

وقال وهو يتطلع إلىّ :
ــ اتركى المدراة وتعالى واجلسى بجانبى ..
ــ لو تركت المدراة سنغرق والبحر عاصف ..
ــ لا يهم لا يهم ..
وكان سكره يزداد ورائحته تغطى رائحة البحر ..

وغاظنى أنه يتصور أننى ما دمت فقيرة فأنا رخيصة وطوع أمره ..
وسألنى :
ــ كم تأخذين فى الجولة إلى السفينة العائمة .. ؟
ــ عشرة دولارات هونج كونجى ..
ــ سأعطيك مائة وألف ألف إذا جلست بجانبى ..
ــ قلت لك إذا تركت الدفة فسنغرق ..
ــ لا يهم لا يهم ..
ــ ما الذى تريده ..
ــ تجلسين معى هنا ..
ــ فى شاطئ استانلى وهو ليس ببعيد وأنت تعرفه جيدًا ، لأنه محرم على سواكم من البشر .. فى هذا الشاطئ تجد أكثر من إنجليزية حسناء يمكن أن تلبى رغباتك ، أما أنا فأشتغل ملاحة .. وأعيش بعرقى ..
ــ ولكنى أريدك أنت ..
ــ هل أحببتنى بسرعة هكذا .. ؟
ــ أجل ..
ــ ولكنى لا أحبك ..

ونفذ هذا الكلام كالسهم فى رأسه المخمور فوقف ومن عينيه يتطاير الشرر .. ولمحت هذا فأخذنى الرعب وأخذت أغير سلوكى وأروضه ..

فقلت له بعذوبة :
ــ هل تريدنى حقًا .. ؟
ــ نعم .. نعم ..

فأخذت فى خلع صدارى وكان لا يزال واقفًا أمامى ، وتحركت وأنا أنزع ملابسى إلى سطح الزورق ، وتحرك معى وأصبحنا عند موضع الدفة ، وألقيت الصدار فى بطن الزورق ، وكنت أود أن أتحرك بيدى بسهولة ، وجمحت به الشهوة ، وشرع ذراعيه ليطوقنى ، وفى هذه اللحظة الخاطفة ، دفعته بكل قوتى وغضبى وكرهى إلى الماء .. فغاص ثم ظهر ثم غاص .. وجلست ساعة أرتعش من الرعب كالمشلولة التى تعجز عن كل حركة ..
ثم حركت المدراة وابتعدت حتى وصلت إلى الشاطئ ..

ومرت ساعات .. وأيام .. وأسابيع دون أن أسمع خبرًا .. أو يوجه إلىّ سؤال ..

وفى كل يوم كنت أتجه بالزورق إلى نفس المكان فى الليل .. دون أن يدرى أحد مقصدى ..

ولكنه لم يطف ولم يظهر قط .. لا على الشاطئ ولا فى المدينة .. غرق ..

ــ كيف يغرق والإنجليز جميعًا يجيدون السباحة .. لأنهم بحارة ..؟
ــ ولماذا لا يغرق وقد كان فى كامل ملابسه وفى أشد حالات سكره ..؟!
غرق .. أو لم يغرق .. ولكننى غرقت أنا فى بحر من الحزن .. كل ما فى الأمر أنه تصورنى رخيصة لأننى فقيرة وكان هذا منبع الجرح .. ومنبع الغيظ ، ومحط الإثارة .. ولكن هل يدفع هذا إلى الجريمة ..
يا كنفشيوس العظيم .. إننا جميعًأ حمقى رغم كل تعاليمك وكل عظاتك ..

وبعد هذا بستة أسابيع سافر زوجى " يونج " إلى بانكوك ولم يعد .. ولم أسمع عنه خبرًا .. وقلت لقد جاء القصاص .. إن هذا بذاك ..

وأمسك مراد بيدها وضغط ..
ــ كم أنت مسكينة وشقية وأنا لا أدرى .. ولا أرى فى وجهك إلا الجمال والسكون .. أما روحك المعذبة فقد جهلتها .. فاعذرينى لغباوتى ..
ــ أبدًا .. لا تقل هذا .. لقد استرحت إليك من أول نظرة .. وعندما طلبت منى أن أتجه إلى هنا طاوعتك وغمرنى الاطمئنان وحدثتك بعذابى .. ونفسى تحدثنى بأنى رأيتك فى كل مكان تتجول فيه فى شوارع هونج كونج .. فى الكوين رود .. وفى شارع " دى فو " وفى محل .. " لان كراوفورد " ..
ــ إنى أحمل نفس الإحساس .. لقد كنت معى هناك فى الصين الأم .. وستظلين معى فى كل مكان ..
واتجهت بالزورق إلى الشاطئ ..

وقالت وهى تنظر إلى هناك :
ــ إن والدى ينتظرنا ..

ورأى شيخًا طاعنًا فى السن يقف على الساحل ولا يعبأ بالمطر .. وخرجت " ليانج شان " تحمل طفلها .. تحدثت مع والدها طويلاً ، وهبط الشيخ إلى الزورق وسلم على مراد وأخذ يحادثه بإنجليزية مكسرة الحروف ..
ثم تركه وهو يقول :
ــ سنبحث لك عن مكان تقضى فيه الليل .. لأن ذهابك الآن إلى فندقك أصبح متعذرًا ..

وشكر " مراد " الشيخ بحرارة .. وجلس فى الزورق يرقب ما حوله وقد سرحت به الخواطر .. وامتلأ رأسه بالأفكار .. وعجب لتصاريف الحياة .. مجرد نزهة مع فتاة عاملة على زورق .. ككل فتاة رآها من قبل تعمل فى القطار .. أو فى الباخرة .. أو فى الطائرة .. مجرد نزهة تكشف له عن هذه المأساة ..

إن الفتاة لم تنس قط فعلتها رغم أنها حاولت مرارًا أن تنساها بكل وسيلة ممكنة ، وما الذى فعلته لتنسى ما الذى فعلته ..؟ ما الذى فعلته .. لقد .. لقد .. لا .. لا ..

* * *

استطاعت الفتاة بلباقتها .. وكياستها أن تخلى له الكوخ الخاص بهم .. وتذهب هى ووالدها الشيخ وطفلها إلى جيران من أقربائهم يقضون فيه هذه الليلة ..

* * *

وجلس على فراش من الحرير .. والغرفة مزينة بستر حريرية ومفارش جميلة على المناضد .. ورسوم مطرزة على الحيطان .. والكل بلون واحد ..

وجلسوا معه يسامرونه .. وظل الطفل صاحيًا .. كفارس كما وصفته أمه .. ثم حملته أمه إلى جيرانهم .. وعادت تعد مائدة العشاء ..

وأكل مراد .. بالعصوين .. وكان قد أتقن الأكل بهما فى الصين ، وضحكت الفتاة ووالدها .. لبراعته فى استعمالهما .. وشرب معها النبيذ .. وتحدثوا فى كل شىء .. تحدثوا عن الحروب .. وتحدثوا عن هونج كونج التى سقطت فى يد اليابانيين فى ثلاثة أيام .. ثم استرجعها الإنجليز .. وعادت الدائرة تدور .. وظل الإنجليز فى قصورهم على الشاطئ .. وهم يعيشون ويموتون فى الماء ..

وسأل مراد الشيخ :
ــ أصبحت هذه الحياة سهلة عليكم كما أعتقد وأتقنتموها ..
ــ اعتدنا على هذه الحياة .. وألفناها .. ولم نفكر فى التغيير والعادة حكمها رهيب .. ولم نعد نحس بالهوان ..
ــ من يهن يسهل الهوان عليه ..
ــ ماذا تقول ..؟
ــ هذا شطر بيت من الشعر لأكبر شعرائنا العرب .. ومن الصعب ترجمته بألفاظه لبلاغته .. وسأشرح لك معناه ..
ــ معناه حكمة أزلية .. لقد اعتدنا على العيش فى الماء .. ولم نطلب التغيير ولم نسع إليه .. فبقينا كما كنا ..!
ــ ولماذا لا تخلصكم الصين الأم من احتلال الإنجليز .. ؟
ــ تستطيع الصين الأم أن تفعل هذا .. ولكنها لا تفكر فيه .. لأن هونج كونج هى المنفذ المتدفق لبضائعها .. والذاهب منها إلى كل مكان .. لماذا الحرب والدمار ..؟ وربما وصلنا إلى القنبلة النيترون ونحن لا ندرى .. لماذا كل هذا ونحن نتحرك فى سلام وأمن .. والصينى فى هونج كونج يعمل كالنحلة فى كل الحرف ويتقن فى كل صناعة .. والبلد لحرية التجارة فى رخاء مذهل .. وتفتح ذراعيها لكل سائح ..

وقالت الفتاة بنعومة لوالدها :
ــ السيد " مراد " يريد أن يستريح الآن يا والدى .. ولا يجب الحديث عن الحرب والسياسة .. فهيا .. ليأخذ حظه من النوم ..

* * *

وحياة الشيخ وخرج مع ابنته .. بعد أن أغلقت الفتاة وراءها الباب ..

ولكن مراد لم ينم .. رغم شعوره بالدفء والسكون .. ظل ساهرًا يفكر فى هذه الفتاة .. ظل ساهرًا يفكر فى " ليانج شان " التى عرف اسمها أخيرًا .. ظل يفكر فى كرمها مع فقرها .. فقد أعدت له بيتها الصغير .. تركت له الكوخ .. وذهبت إلى الجيران .. ولولا التقاليد والعادات المتأصلة فيهم .. لضموه إلى أحضانهم .. وناموا معه وهو الغريب تحت سقف واحد ..

لماذا بقى فى هونج كونج كل هذه الأيام .. لأنها فتحت له ذراعيها وهو يهبط من الطائرة .. وخرج من المطار بعد دقيقة .. لم يشعر بأى قيد .. شعر بالحرية التى يحبها كل إنسان .. حتى الإنجليزية المكلفة بالاطلاع على ورقة التطعيم الدولية .. استقبلته بابتسامة ومرح .. كأنها تعرفه من قبل وكأنها تحبه .. ترك الجميلة .. وخرج إلى الشارع .. فوجد الجمال والنظام والعمل .. والعمل بجنون .. وهذه هى الأشياء التى يحبها .. وجد حركة المرور كلها تقف للأطفال الصغار عندما يعبرون الطريق .. هذه هى الحضارة .. حضارة الصين العظيمة منذ آلاف السنين .. برزت .. من وراء القرون ..

* * *

أى خبل لماذا لا ينام .. ؟ هل يترك عمله ويبقى فى هذه المدينة لأنه يحبها .. ولأن فيها فتاة أحبها .. أى جنون .. كيف يترك وطنه الذى رعاه وأطعمه وسقاه وشرب من مائه وتغذى من طينه ..؟ كيف يتركه .. أبدًا .. أبدًا سيعود إليه .. سيعود .. وسينام .. وفى رأسه الحب والجمال .. والسلام .. قنبلة النيترون .. لا .. هيروشيما أخرى لا .. إرهاب .. لا اختطاف طائرات .. لا .. ماذا جرى للشباب فى هذا العصر .. عصابات المافيا .. مارلون براندو .. أعظم الممثلين فى هذا العصر .. المافيا .. لا .. ولكنه مثل أعظم أدواره .. وهل بقيت المافيا بعد التمثيل أم ذهبت .. ؟ لا يدرى .. هل سكر من النبيذ وأصبح يخرف ..

أين ذهبت " ليانج شان " وتركته وحده .. فى الليل والبرد .. والظلام ..

* * *

وقبل أن ينبلج الصبح شعر بأنفاسها .. ورضاب شفتيها على شفتيه .. وشدها إليه .. وشعر بأنه يغوص فى ظلام هذا الوجود الذى لا يعرف ولا يدرك معناه .. ولا يدرى لماذا وجد فيه ..
=================================
نشرت القصة فى صحيفة مايو 28/12/1981 وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===========================
======

قصة حبات من الزمرد

* قصص من هونج كونج
مكتبة مصر 2001

حَبات من الزمرد
قصة محمود البدوى


فندق « الباب الذهبى » فى « كولون » دلنى عليه صديقى ( تشن ) ..

وتشن شاب صينى مهذب التقيت به عرضا فى القطار القادم من « لوو » وأنا راجع من الصين الشعبية ولما علم أننى مصرى وحيد فى بلاد الصين تطوع أن يكون دليلى بشهامة عديمة النظير ..

وقد اختار لى هذا الفندق لقربه من المطار ولأنه يقع فى شارع جانبى بعيد عن ضجيج المواصلات فى المدينة الصاخبة ..

وقضيت أربعة أيام فى الفندق وأنا أشعر براحة المسافر الذى يعيش فى الفردوس ..

وفى اليوم التالى .. الخامس هبط علينا نفر من جنود الطيران الأمريكيين .. وكانوا قادمين من مانيلا .. فحولوا الفندق بصخبهم إلى جحيم .. فاضطررت أن أجمع حاجاتى لأرحل .. وفيما أنا أخرج قمصانى من درج « الشوفنير » عثرت على حبات من الزمرد الخالص وكانت متوسطة الحجم .. ومن أندر أنواعه على الإطلاق .. وبهرنى جمالها ودقة صنعها ..

وأول شىء خطر على بالى فى الحال أن أسلمها لإدارة الفندق لتتصرف فيها كما يحلو لها ، ولكن عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت من الفتيات العاملات فى هذا الجناح أن غرفتى كانت مؤجرة لشاب يدعى « كارتر » يعمل ملحقا ثقافيا فى قنصلية أجنبية وقضى فى الغرفة عامين كاملين وتركها لأنه نقل من هونج كونج ولم يشغلها بعده إنسان سواى ..

وأبقيت الحبات معى .. وأنا أجيل الأمر على كل الوجوه لأجد طريقة للاستدلال على صاحبها .. ثم دار فى خلدى أخيرا على أقرب الاحتمالات إلى الرجحان ، أن الحبات تخص سيدة قضت ليلة غرام مع هذا النزيل ثم نسيتها وذهبت .. ومنعها الخجل أو خشية الفضيحة أن تعود فتسأل عنها ..

وانتقلت إلى فندق « الميرامار » وهو قريب من البوغاز .. وحبات الزمرد معى وكنت أضعها فى جيبى حيثما ذهبت خشية أن تسرق لو تركت فى حجرتى بالفندق ..

وذات ليلة وأنا أتعشى فى مطعم « البحار السبعة » بشارع « كوين رود » فى هونج كونج جذبنى بهدوئه وقلة رواده .. رأيت سيدة أجنبية تتناول العشاء على مائدة مفردة .. وكانت تزين جيدها بعقد من الزمرد شبيه تماما فى حجم حباته ولونه وبريقه بالحبات التى وجدتها ..

وكان المكان هادئا وتنبعث من زاوية فيه موسيقى صينية خفيفة .. مما جعلنى أعلق نظرى بالسيدة وكانت أجمل من فى المطعم .. وكان جمالها ووداعتها وكونها وحيدة .. يشجعنى على محادثتها .. ولكن السبيل إلى التعارف كان شاقا وعلى الأخص أنه لم تتح لى أية فرصة لبلوغ قصدى .. فبارحت المطعم دون أن أبادلها كلمة واحدة ..

وحدث أن التقيت بهذه السيدة مرة أخرى ضحى يوم من أيام الثلاثاء فى بهو الفندق .. وكانت تتناول مفتاحها من لوحة المفاتيح فعرفت أنها تقيم معى فى نفس الفندق ونفس الجناح ..

ومنحتنى الظروف فرصة ذهبية لألتقى بها مرة ثالثة .. فى مكان أنسب للتعارف .. إذ جلسنا معا جنبا إلى جنب على الدكة الخشبية فى السفينة التى تعبر البوغاز .. وكانت تقرأ جريدة جنوب الصين فطيرها الهواء من يدها .. فجريت وأعدتها لها فشكرتنى بعذوبة وكانت ذاهبة مثلى إلى هونج كونج ..

وأخذنا نتحدث بالإنجليزية عن جمال المدينة .. وجمال هذه البواخر السريعة التى تنقل الجمهور عبر البوغاز من كولون إلى هونج كونج فى رحلة ممتعة تحت أجمل مناظر البر والبحر على الإطلاق ..

وقالت لى .. إنها ذاهبة إلى بنك الصين .. لتصرف بعض الشيكات السياحية .. فعبرت لها عن سرورى لمرافقتها فى هذه الجولة إذ لا غرض لى فى الواقع من الذهاب إلى هونج كونج أكثر من التجول ..

ولم نمكث فى البنك أكثر من سبع دقائق .. ثم خرجنا نضرب فى شوارع المدينة ..

وكانت تريد أن تبتاع بعض الأشياء من محلات « ين كراوفورد » فدخلنا المحل وتسوقت أشياء كثيرة اشتركنا فى حملها معا .. وحدثتنى بأنها أمريكية كزوجها ..

وسألتنى فى رقة :
ـ هل سمعت عن إنديانا .. ؟
فقلت لها :
ــ إنها الولاية التى أنجبت « إبراهام لنكولن » .. أعظم رجل فى تاريخ أمريكا .. بل طراز نادر فى الرجال عبر تاريخ البشرية ..
ــ هل تعتقد هذا .. ؟
ــ إنها الحقيقة .. !
ــ ولكن زوجى لم يتمثل بإبراهام أنه يصطاد السمك الآن فى (أبردين) ..
ــ هواية ممتعة ..
ــ أو تعتقد هذا .. ؟ إنها تستغرق حواسه تصرفه عن كل شىء آخر .. تصور أنه لم يشاهد شيئا فى « هونج كونج » بعد .. ولنا هنا قرابة اسبوعين .. وإذا كان هذا هو غرضه من السفر .. فلماذا تحملنا المشقة وقطعنا آلاف الأميال كان يستطيع الصيد فى إنديانا ..
ــ ولكنك على « نقيضه » تتنزهين ولم تضيعى ساعة واحدة دون مشاهدة شىء جديد ..
ــ أجل .. وماذا كنت أفعل غير ذلك .. ؟!

ورأيت فى عينيها الخضراوين بسمة جميلة .. وكانت حبات الزمرد على صدرها .. والحبات الشبيهة بها فى جيبى ..

وكنت أود أن أخرج ما فى جيبى لأقارب بين العقدين .. وأسرد لها القصة كلها .. ولكن استحييت ..

ومشينا حتى رصيف البواخر .. ثم ودعتها وقفلت عائدا إلى المدينة ..

وكنت متشوقا إلى ملاقاة زوجها .. فرأيته فى الصباح الباكر .. واقفا بجانبها أمام المكتب المعد للاستقبال .. وكان يملى برقية .. وبيده ( الشص ) وعلى كتفه « الجراب » .. وكان بملابس الصيد الكاملة .. النعل والشورت والجاكتة ذات الجيوب المنتفخة ..

وكان مرسل اللحية وقد ترك شعره ينمو على عارضيه بغزارة .. وقدرت سنه فى حدود الأربعين .. وبدا لى متناهيا فى الطيبة .. وهى تقدمه لى برقة .. وصافحنى « شارل » بحرارة وحدثته « جوان » بأنى رافقتها إلى البنك الصينى .. وسهلت لها الأمر فى البنك كما صاحبتها وهى تتسوق بعض حاجاتها .. وحملت لها الأشياء .. حتى الميناء وانحنى لى الرجل بود الفلاح الطيب القلب .. وصافحنا وذهب إلى صيده ..

وشيعت « جوان » زوجها وهى ضاحكة .. وأخذت تحدثنى عن عمله .. وأنه يملك مزرعة وحظيرة للأبقار .. وأنهما فى بحبوحة من العيش ومنذ أربع سنوات وهما يسيحان فى مطلع كل شتاء .. إلى كل بلاد العالم ..

وتركتها بعد ساعة وأنا أفكر فى عرض هذه الحبات على جواهرى فى المدينة لأعرف قيمتها ..

ومشيت أتفرس فى واجهات الحوانيت .. وكانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة صباحا والأرصفة تموج بالرائحين والغادين .. وحركة المرور على أشدها والجو صحوا والشمس ساطعة .. ولم تكن هناك أكثر من لفحة برد خفيفة ..

وأخيرا اخترت متجرا صغيرا فى شارع « دى فو » .. واجتزت أكثر من باب لأصل إلى داخل المحل .. حيث وقف رجل ربعة يتفحصنى بعينين نفاذتين ..

وحدثته بالإنجليزية عن رغبتى وأنا أضع حبات الزمرد أمامه على المنضدة .. فنظر إليها مليا بدون اكتراث وهو يوجه إلى نظرة جامدة ..

ثم أخرج المجهر وجعل يتفحصها حبة حبة وقال فى إنجليزية سليمة ..
ــ إنها زمرد خالص ..
ــ وكم حبة تنقصها لتكون عقدا .. ؟
ــ خمس حبات فقط ..
ــ وبكم الخمس .. ؟

وحرك أصابعه على آلة فيها بلى .. ثم قال بهدوء :
ــ بمائة دولار ..
ــ دولار ( هونج كونجى ) ..؟
ــ نعم ..
ــ أليس هذا كثيرا .. ؟
ــ هذا هو سعر السوق ..
ــ لقد انفرط العقد من زوجتى وهى خارجة من السينما .. وضاعت منها الحبات الناقصة .. أرجو أن تقدر هذه الظروف ..
ــ اسأل عن السعر فى الخارج .. وستعرف كم أنا أكرمتك ..
ــ لا فائدة .. ؟
ــ آسف هذا آخر سعر ..
ــ وإذا بعت لك هذه الحبات فبكم تشتريها .. ؟
ــ أشتريها بألفين من الدولارات ..
ــ فقط .. ؟
ــ فقط ..
ــ سأشاور زوجتى .. وأعود ..
ــ كما تشاء ..

وخرجت وحدى ومشيت فى شارع ضيق .. وسمعت أقداما خفيفة تتعقبنى .. ثم رأيت شابا يدخل من باب جانبى .. ولم أعره انتباها وخرجت إلى الطريق الرئيسى والحبات فى جيبى ..

وكانت الساعة قد بلغت الواحدة بعد الظهر .. فتغديت وجبة سمك .. وخرجت أتمشى فى المدينة ولمحت دار من دور السينما فيلما يعرض لسلفانا مانجانو .. وكان الفيلم مثيرا فأحببت أن أراه كاملا قبل أن يعمل فيه مقص الرقيب فى أى بلد آخر ..

وقطعت تذكرة فى ( البلكون ) وكانت السينما قد اشتغلت ويبدو أن العرض مستمر .. وأدخلنى العامل وأجلسنى فى صف من الصفوف الخلفية ..

فجلست فى الظلام وأنا أمر بالسكون العميق فلا نأمة ولا همسة ولا حركة من مخلوق حى .. وبدا لى جليا أن الرواد مشغولون بحلاوة ( سيلفانا مانجانو ) ومتابعة الفليم عن أى شىء آخر ..

ولكن تبين لى بعد أن أخذت عيناى على الظلام أننى الجالس الوحيد فى كراسى ( البلكون ) كلها .. ثم ظهر شبح وحيد .. فى الصف الثالث .. وكان متطرفا إلى أقصى اليمين ..

وكانت السينما طويلة طولا لاحد له .. وقليلة الاتساع فى العرض .. فبدت لى فى هذا الظلام الرهيب كالنفق الموحش .. ولولا أن سيلفانا كانت تضحك وتتجرد من ملابسها قطعة قطعة .. لخرجت مفزوعا من فرط الرعب ..

ولكن سيلفانا لم تمنعنى من التوتر والإحساس بالخوف .. إذ شعرت بأننى المخلوق الوحيد الذى يتنفس فى المقصورة .. والآخر الجالس هناك شبح .. وليس إنسانا وكان وجوده وصمته يزيدنى رعبا ..

وبحركة عفوية أخرجت سيجارة من جيبى وأشعلتها .. وقبل أن أستمرئ مذاقها رأيت شبحا يقف على رأسى ويقول بصوت فيه غلظة :
ــ التدخين ممنوع ..
ــ آسف لقد كنت ناسيا .. هل أستطيع أن أدخنها فى الخارج .. ؟
ــ تفضل ..

وأضاء لى بنور البطارية الطريق فى الظلام .. ووقفت فى البهو الخارجى .. أدخن وأفكر فى مبارحة السينما .. وقد وجدتها فرصة لأهرب ..

واتخذت طريقى إلى الخارج فعلا .. وشعرت وأنا أهبط السلالم بأقدام تتحرك ورائى ..

وفى الشارع رأيت وجه الشاب الذى كان يلاحقنى .. فى متجر الجواهر وخارجه .. وجعلتنى هذه المطاردة أحافظ على الحبات بكل حواسى وأنا أتحرك فى الطريق ..

وفى صباح يوم التقيت « بجوان » .. فى أحد شوارع « كاولون » الجانبية بعيدا عن الميناء .. وكانت تقف على باب حانوت ولما لمحتنى أسرعت نحوى ..

وقالت بسرعة :
ــ أرجو أن تصحبنى فى جولة قصيرة .. أريد .. أن أشترى شيئا .. وهم يرفعون السعر أضعافا مضاعفة إذا كانت السيدة وحدها ..
ــ أنا طوع أمرك ..

ونظرت إلى صدرها .. فوجدته عاريا .. ليس فيه عقد الزمرد ..
فسألتها بدافع من الفضول :
ــ أراك تركت العقد اليوم .. فى الفندق ..
ــ لا .. لقد سرق منى ..
ــ سرق .. ؟!
ــ أجل ولا أدرى هل نزع منى وأنا أصعد جسر البواخر .. أم فى الشارع أم فى السينما .. إن النشالين فى هونج كونج .. ليس لهم ضريب فى العالم كله ..
ــ أدركت هذا منذ الأسبوع الأول ولهذا أحافظ على جيوبى .. وهل ستشترين غيره .. ؟
ــ أجل .. الآن .. وإلا ظن بى زوجى الظنون .. فإنه لا يصدق أبدا أنه نشل ..

واحمر وجهها .. أكثر وأكثر .. وأشفقت عليها .. وتحسست بيدى مكان حبات الزمرد التى فى جيبى ..

وقلت لها وبى رغبة قوية لأن أعطيها هذه الحبات بعد أن استكمل لها الحبات الخمس الناقصة ..
ــ أعرف متجرا فى هونج كونج .. دعك من متاجر « كولون » .. وسنذهب إليه غدا فى أى وقت تشائين .. ونبتاع لك العقد من هناك .. فهذا أضمن وأدعى إلى الاطمئنان ..
ــ أو تعرف صاحب المتجر .. ؟
ــ أجل ذهبت إليه مرة ..
ــ وأسعاره معقولة ..
ــ إلى حد كبير ..
ــ حسن .. كم أشكرك .. لأنك ستنقذنى من موقف محرج للغاية ..
واشترت بعض الحاجات ورافقتها إلى الفندق ..

وعبرت البوغاز إلى هونج كونج واشتريت الحبات التى تنقص العقد .. بحوالى مائة دولار .. ونثر الجواهرى الفصوص كلها ثم كون منها عقدا جميلا .. فوضعته فى جيبى وفى عزمى أن أعطيه « لجوان » فى الصباح .. كهدية مفاجئة لها .. بدل العقد الذى سرق منها ..

واسترحت فى مشرب إلى الساعة الخامسة مساء .. ثم أحسست بالرغبة إلى أن أذهب إلى « ابردين » .. فركبت سيارة إلى هناك ..

ووقفت على الرصيف .. ومئات الزوارق تتهادى فى عرض الماء .. وآلاف منها راسية فى صفوف منتظمة على الساحل .. وعلى البيوت المواجهة يلمع الغسيل الأبيض فى ظلام الليل ..

وكان العشى قد دخل وأضيئت المصابيح الصغيرة فى الزوارق والسفن .. وبدت الميناء كلها كحبات من النجوم تناثرت على أرض من الزئبق ..

ورأيت النساء الصينيات .. يتعلقن بالسائحين ليحملوهم على النزول إلى زوارقهن .. كل شابة تقبل على نفر منهم وتشير إلى زورقها .. وبعد نزول الجميع فى الزوارق .. بصرت بزورق منفرد .. يقف وحده بعيدا وشابة صينية فى مؤخرته .. جلست وحدها .. وكانت لا تغرى أحدا بالركوب فى زورقها .. بأية إشارة أو حركة .. وكان على وجهها تعبير من الصمت والأسى دفعانى لأن أتقدم نحو زورقها ..

وهبطت الزورق حتى دون أن أسألها إن كانت على استعداد لأن تبحر بى ..

وظلت فى مكانها نصف دقيقة وهى لا تحرك ساكنا بعد أن توسطت الزورق .. ثم جذبت الحبل الذى يربط الزورق .. وأمسكت بالمجداف .. وبعد أن خرجنا من صف الزوارق .. وأصبحنا وحدنا فى عرض الماء .. نظرت إليها والى طول قامتها ورشاقة حركاتها .. وكانت ملساء العود .. طويلة على عكس الصينيات وتضع على شعرها الأسود منديلا .. وتلبس جونلة وصديرا أزرق .. وفى قدميها حذاء خفيف يساعدها على الحركة والتنقل من مكان إلى مكان ..

وعندما بعدنا عن مكان الزوارق والرصيف .. والذهبية التى يتناول فيها السائحون السمك المصطاد حديثا .. وكل ما فى المكان من حركة وصخب .. بدا الخليج ساكن الموج وبيوت الفقراء على الساحل فقيرة شاحبة ..

وقلت للفتاة :
ــ استريحى .. واتركى المجداف .. فإنى أحب أن يتهادى الزورق على صفحة اليم ..

فتركت المجداف .. وجلست عند الدفة وهى تنظر إلى بعيد .. وتأملت وجهها وشعرها وقوامها كله .. فى جلستها المنثنية .. كانت جميلة تقاطيع الوجه .. وفى عينيها الناعستين اللتين تزيدها فتنة وكأن أسنانها صف من اللؤلؤ .. يلتمع فى ليل لم يطلع فيه قمر ..

وكانت مستديرة الوجه وإذا نظرت إليها من جانب .. ظهر حاجباها الغزيران وخط الهدب .. وشحمة الأذن الصغيرة وقد تخطتها سوالف الشعر الأسود ..

وسمعت وأنا أتأملها وأتأمل الليل والنجوم تحادث شخصا بالصينية .. فارتجفت إذ كنا فى وسط الماء .. ولم أشاهد شخصا غيرها فى الزورق ..

ثم تبينت فتاة صغيرة فى القاع .. خارجة تفرك عينيها وكانت نائمة ثم استيقظت ..

وسألتها :
ــ أهذه بنتك ..؟
ــ أجل ..
ــ وأين أبوها .. ؟
ــ مات منذ ست سنوات ..
ــ هنا .. ؟
ــ أجل .. هنا فى « ابردين » .. مات ودفن فى الماء ..

وسألتها :
ــ وأنت .. هل تشتغلين بالصيد ..؟
ــ إننى أكتفى بنقل السياح .. إلى الذهبية .!
ــ وتربحين من عملك هذا ..؟
ــ بعضهم يعطى كثيرا .. وبعضهم يعطى قليلا وإنى راضية ..
ــ وأنت .. هل تعمل هنا فى هونج كونج .. ؟
ــ إننى سائح .. ؟
ــ ما هو اسمك .. ؟
ــ إبراهيم ..
ــ وحيدا .. ؟
ــ نعم ..
ــ أو ليس معك زوجتك .. ؟
ــ لم أتزوج بعد ..
ــ وهل شاهدت كل الأماكن الجميلة فى « هونج كونج » « وكولون » ..
ــ بعضها .. وأحب أن أشاهد الباقى .. ولكن ينقصنى رفيق من المدينة ..
ــ ألا تعرف أحدا .. ؟
ــ كلا .. هلا ترافقيننى ..
ــ وهذه ..؟ أتركها لمن ..؟ إننى لا أستطيع أن أترك الماء ساعة واحدة ..!
ــ يحزننى ذلك ..

ونظرت إلى ما حولى .. وقلت لها .. وأنا أود أن أبعد بالزورق وأبعد إلى قلب المحيط ..

وسألتها :
ــ ما اسمك .. ؟
ــ ... ..
ــ هل تسمحين لى بأن أجدف ..
ــ أتعرف ..؟
ــ إننى فلاح .. وقريتى على النيل ..

وأمسكت بالمجداف ..
واتجهت بالزورق إلى الشمال وهى تواجهنى بنظراتها فى ثبات .. وكانت فتاتها جالسة فى المقدمة صامتة .. ولا أدرى أتعرف الصغيرة الإنجليزية أم لا .. لأن أمها كانت تحادثها بالصينية التى لم أكن أفهم منها حرفا ..

وبعد أن قطعت مرحلة طويلة فى التجديف .. ألقيت بالمجداف .. وجلست بجانبها ..

وسألتنى فى عذوبة :
ــ أتعبت ..؟
ــ كلا .. ولكن أود أن أتأمل هذا الجمال ..

وقلت مستطردا .. وأنا شاعر بنشوة ..
ــ رأيت فى هذه الرحلة أجمل فتاتين فى العالم أجمع .. واحدة فى « يوهان » والثانية فى « ابردين » ..
ــ فى « ابردين » .. من هى ..؟
ــ أنت ..!
ونكست رأسها واحمر وجهها ..

وأضفت مستطردا :
ــ وإذا سألتنى .. أيهما الأكثر جمالا والأكثر فتنة .. أقول لك التى فى « ابردين » ..
فرفعت رأسها وقالت ضاحكة بعذوبة ..
ــ أنا لم أسأل ..
ــ ولكننى أجبت .. على السؤال على أى حال ..

واقتربت منى وقالت برقة .. وهى تميل علىّ بوجهها ..
ــ هل تقول هذا الكلام .. لكل فتاة .. ؟
ــ لا لا .. ما قلته لسواك قط ..
ومسحت على ذراعى ..
ــ ولكنى ما سمعته قبلك من إنسان ..
والتصقت بى ..

فقلت هامسا ..
ــ الفتاة تنظر إلينا ..
ــ إنها عمياء ..

وكأنى قد لسعنى سوط .. فابعدتها عنى فى رفق ونكست رأسى وأنا أحس بدوامة الحياة ..

ولم تستطع .. أن تدرك ما طرأ على مشاعرى من تحول على الفور فصمتت ..

ورفعت رأسى .. ورأيت حبات الزمرد متناثرة هناك فى هذا المكان .. على الأرض .. وفى الماء .. وفى كل رقعة فى العالم ولكن يغطيها تراب الفقر .. فلا تراه عينى ..

وبرق فى ذهنى خاطر بوحى الساعة .. فاقتربت من الفتاة الصغيرة ومسحت على شعرها .. وأخرجت حبات الزمرد من جيبى ووضعتها فى حجرها ..

وكانت أمها تنظر إلىّ فى ذهول .. والزورق يتهادى .. ولا أحد يحركه .. وحبات الزمرد مازالت تبرق فى حجر الفتاة وأصابعها الصغيرة تلمسها فى حنان .. وكنت أحس أن عينيها المنطفئتين قد بدا يلوح فيهما شعاع من النور ..
=================================
نشرت القصة بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " مساء الخميس " سنة 1966 وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
=================================

قصة الجوع

* قصص من هونج كونج
مكتبة مصر 2001



الجــــــــوع
قصة محمود البدوى



"دخلت مطعم " لينج " لأتغدى بعد" جولة طويلة فى شوارع هونج كونج مدينة الأعاجيب وكان يقع فى شارع " دى فو " شريان المدينة الرئيسى .. واشتهر بأطباقه الشهية .

واخترت مائدة مفردة فى القاعة التى تميل إلى الاستطالة ولها أربعة أبواب تتحرك بلولب .

وكانت الستائر الحريرية المزخرفة بأجمل الرسوم مسدلة والمطعم فى نصف ظلام .

وأضيئت جوانبه بقناديل حمراء صغيرة حتى فى النهار لأن الستائر حجبت عنه الضوء الخارجى كلية .

وكانت الموائد يغطيها نسيج أرجوانى موشى بالزهور .
والقاعة غاصة بالزبائن من مختلف أجناس الأرض .. وثلاثة من الخدم يتحركون بين الموائد فى ستراتهم البيضاء الزاهية .

وجذب انتباهى رجل صينى فى حوالى الأربعين من عمره .. كان يجلس فى نفس الصف ويأكل بشراهة مذهلة وكل القرائن تدل على أنه يتناول هذه الوجبة بعد أن تمزقت أحشاؤه وعانى طويلا من سعار الجوع .

وكان الشحوب الذى يتركه الجوع على وجه الإنسان لايزال بارزا على وجهه المستدير وعيناه قد انطفأ ما فيهما من بريق ..

وبدت جيوب سترته منتفخة بما فيها من أشياء .. وشعره قد نبت بغزارة على عارضيه كما أنه لم يكن يعنى بملابسه .

وكان مظهره كله يدل على أنه جواب آفاق .

وأخذ يأكل فى صمت وبصره مركز على الصحون وذراعاه تطوقان ما فوق المائدة من طعام كأنه يخشى أن ينتزع منه .

ومرت فتاة صينية حلوة بين الموائد حاملة صندوقا من السجائر .. فاستوقفها الرجل وتناول منها علبة .. وأرجأ دفع الثمن حتى يفرغ من الطعام .

ودفعت الفتاة بابا صغيرا جانبيا وتركته مفتوحا .. فسمعت على أثر ذلك موسيقى خفيفة وعرفت أن الباب يفضى إلى ملهى فى نفس البناية .

وكان الملهى يعمل فى الليل ولكن بعض فتياته كن جالسات هناك فى استرخاء وعيونهن لاتزال تشعر بالحاجة إلى النوم .

ولمحت من بينهن غانية شابة جميلة جدا .. وكانت تجلس وحدها وعلى وجهها الشرود .. وما لبثت أن نهضت .. ودخلت قاعة الطعام .. واختارت مائدة جانبية خالية .. وطلبت قدحا من النبيذ تناولت منه جرعات ثم أشعلت سيجارة .

وكانت ممتقعة الوجة وعلى خديها شحوب بارز .. وشعر رأسها أسود غزير وقد تركته ينسدل على جبينها ليخفى بقايا دموع فى عينيها .

وكانت ترتدى الجونلة الصينية المشقوقة عند الفخذين وفوقها صديرية حريرية حمراء .. وبدت ضجرة وحزينة .

ولم تستطع نضارة وجهها أن تخفى أحزان قلبها .. فقد كان فمها الصغير تتفتح شفتاه قليلا .. كما تتفتح الوردة فى رعشة خفيفة عندما يمسها الطل .

ورغم الستائر المسدلة على أبواب المطعم ونوافذه .. فقد أحسست بشىء حدث فى الخارج .. فقد أخذ المطر يتساقط وهبت الريح فى شدة .. ولم يكن الجو باردا حتى فى ديسمبر ولكن جهاز التكييف كان يعمل .

وتحركت السيدة السمينة صاحبة المطعم من مكانها عند " البنك " لما رأت الخدم يقدمون الحساء وهو آخر الصحون فى المطاعم الصينية .. وأخذت تحيى الزبائن وتسألهم عن المزيد من الرغبات .

وفى أثناء جولتها حدث فجأة شىء رهيب .

فقد أراد الرجل الصينى " جواب الآفاق " الذى كان يأكل بشراهة .. أن يتسلل من المطعم دون أن يدفع ثمن الطعام .. لأنه لم يكن معه نقود على الاطلاق .

وأحس به الخدم فأوقفوه ودفعوه بعنف إلى الداخل وأعادوه إلى مائدته ليكون بجانب قائمة الحساب .

وأخذت العيون كلها تحدق فيه بوحشية .

وتطلعت إلى الرجل فإذا هو صامت يدير عينين مذعورتين وأصابعه تعجن طرف سترته .. تخاذل الرجل وانهار كلية .

وأخذت النظرات الوقحة تعرى هذا البائس من ثيابه .. حتى بلغ به التأثر مبلغه .. فارتعشت شفتاه وعبر وجهه عن أقصى حالات الألم البشرى .

وعلى اثر كلمة سمعها رأيته يقلب جيوبه ويفرغ كل ما فيها .. وبعد هذه الحركة .. غامت عيناه تماما وتصلب فكاه .. وحسبته قد أصابه الصرع .

وصاحبة المطعم التى كانت توزع ابتسامتها وتفيض من عذوبتها على الزبائن .. انقلبت فى لحظة إلى نمرة متوحشة .. وأخذت تهدد بالصينية وتصدر أوامرها للخدم .. ثم أدارت قرص التليفون وهى فى حالة غضب .

وتسرب الخبر إلى العابرين فى الطريق فأخذوا ينظرون إلى الداخل من خلال الستر .. ولولا أن باب المطعم كان مغلقا ووقف عليه حارس ليمنع الرجل من الهروب .. لدخلوا وأشبعوا الرجل سخرية .

وتألمت لحاله .. ولكننى لم أغفر له خضوعه المطلق وذلته .. وكنت أود لو يتصارع معهم ويتضارب وهو يبدو قويا ..

وخيم الوجوم على من فى القاعة عندما دخل رجل البوليس .

وفى وسط الصمت المخيم رأيت الغانية الشابة التى كانت جالسة هناك وحدها وأمامها قدح من النبيذ .. تقترب من الرجل المسكين ..

وتقول وهى تشير بيدها :
ـ هناك ورقة ساقطة من السيد .. وانحنت والتقطت ورقة بمائة دولار هونج كونجى .. ناولتها للرجل .

وكأنما بصقت بهذه الكلمات الندية على وجوه الموجودين فى القاعة جميعا ..

وتناول الرجل الورقة ولم ينبس ..

وكبرت المرأة فى نظرى وكبرت حتى حجبت كل من فى القاعة .

وأدركت يقينا وأنا أنظر فى عينيها .. أنها ذاقت أكثر من مرة عذاب الجوع ..
=================================

نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم بالعدد 1071 فى 1551965 وأعيد نشرها بمجموعة " مساء الخميس 1966 وبمجموعة "قصص من هونج كونج " تقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2001
=================================

قصة السفينة الذهبية




السفينة الذهبية
قصة محمود البدوى


بيتنا فى بورسعيد ، وعندما وقع الاعتداء علينا فى سنة 1956 كنت بعيدا بآلاف الأميال عن الأهل والوطن .. كنت هناك فى مدينة " هونج كونج " ..

وقرأت الخبر فى جريدة ( جنوب الصين ) وأنا أعض على النواجذ .. فأنا بعيد جدا عن جو المعركة ولا أستطيع أن أفعل شيئا من أجل وطنى .. وليس فى إمكانى أن أطلق رصاصة واحدة فى صدر الأعداء ..

وقدر علىَّ أن أكون سائحا يتنزه ووطنى تشتعل فيه النار .. فما أشد العذاب ..

ولكن الشرارة أصابتنى من بعيد فقد انقطع عنى المال ..
ولم يكن فى جيبى غير دولارات قليلة ، لا تعيشنى أكثر من عشرة أيام إذ كنت فى نهاية أكتوبر أنتظر المدد من بورسعيد لأرحل .. وهأنذا أصبحت بتصاريف القدر وحيدا شريدا فى هذه المدينة وما أعرف إنسانا فيها يمدنى بسنت واحد فكيف أعيش .. ؟؟

وفكرت فى تغيير الفندق الذى أقيم فيه فى الحال .. وكان يقع فى جزيرة ( كولون ) والبحث عن أرخص فندق فى " هونج كونج " إذ أن الفنادق فيها أرخص ..

وعبرت الخليج فعلا والساعة تتجاوز العاشرة صباحا .. وسرت فى شارع ( دى فو ) متمهلا متطلعا إلى اللافتات .. والناس فى حركة سريعة نشطة على الرصيف كأنهم سيلحقون آخر قطار ..

وظللت أسير حتى اقتربت من سوق الخضار وأصبحت اللافتات كلها مكتوبة باللغة الصينية وعجزت عن فهم حروفها ..

وكان الجو حارا وخانقا لشدة الرطوبة وأحسست بالعرق فى يدى على مقبض الحقيبة .. فوقفت ألتقط أنفاسى وأعرف مستقرى .. بعد أن تبينت أننى دخلت فى أزقة ملتوية أشبه بأزقة ( أبردين ) ..

وكان أصحاب الدكاكين يتصورننى بائعا جوالا .. فأخذوا يسألوننى فى كل خطوة عما أحمل .. فكنت أجيبهم بأنى مجرد عابر سبيل ..

وأخيرا وجدت لافتة مطموسة على باب ضيق .. ودخلت فى طرقة معتمة ملتوية .. وكلما تقدمت خطوة شعرت بالظلام يزداد كثافة .. مع أن الشمس كانت طالعة .. وأحسست بالخوف من شىء جعلنى أفتح عينى جيدا وأحس من فرط الفزع بضربات قلبى كأنها ضربات آلة قوية ..

وصور لى الخيال المحلق الفنادق الرهيبة التى تحدث عنها " ادجار الن بو " فى قصصه وتصورت هذا واحدا منها .. ظل قائما عبر السنين فى هذا المكان .. وازداد رعبى فوقفت تماما لأستدير وأعود ..

وهنا سمعت صوتا بالإنجليزية .. صوتا خافتا خيل إلىَّ أنه ينبعث من أعماق جب .. ولكنه كان على أى حال صوت إنسان وتبع الصوت خطوات بطيئة لينة فى اتجاهى ..

وكان أول شىء رأيته فى وجه الشخص الذى استقبلنى فمه المفتوح عن سنتين ذهبيتين .. ثم ملامح صينية خالصة .. واستقبلنى الرجل ببشاشة .. وإن كانت عيناه ظلتا لمدة نصف دقيقة مفتوحة وتنظر إلىَّ بعمق وكأنها تنظر لتعرف فى لحظات خصائصى كمخلوق بشرى ..

ومن حديثى القصير معه تبينت طيبة نفسه وكانت كل التصورات السابقة مجرد أوهام سبحت فى عقل مرعوب .. وفى دقائق أعاد إلىَّ السكينة المطلقة .. وأعطانى مفتاح غرفة رخيصة بسبعة دولارات هونج كونجى فى اليوم ولم يطلب دفع شىء مقدما ..

وكانت الغرفة فى الطابق الخامس ولا يوجد مصعد فى البناية ولكنى رضيت بها ولم تكن نافذتها الخلفية الوحيدة تطل على شىء بهيج .. على أن الغرفة على صغرها كانت بالغة الحد فى النظافة ..

وكان فى الجناح الذى أقيم فيه ست غرف على صف واحد .. ألفيت أبوابها كلها مغلقة ولا تدل على وجود سكان ..

ولم يكن الفندق مستعدا للطعام فكنت آكل فى المطاعم الشعبية الرخيصة المزدحمة بالعمال والحمالين وسائقى عربات الركشا وما كنت أفهم حرفا واحدا من حديثهم ومنهم من كان يرافقنى فى مائدة واحدة ..

ولكن وجوههم تبدو على اختلاف السحن متآلفة ويربطهم الرباط الذى يضم الفقراء والتعساء فى العالم ..

* * *

وكنت متلهفا على أخبار بلادى ولكنى أعيش فى مستعمرة بريطانية فكيف تصل إلى الحقيقة .. ؟؟

لم أكن أقرأ إلا جريدة ( جنوب الصين ) وكانت معظم برقياتها من رويتر ووكالة طوكيو للأنباء .. وعشت فى دوامة .. ولكننى ألفيت نفسى بعد عشرة أيام من الآلام المضنية أتحمل الموقف فى صلابة وأترك الأيام تجرى فى أعنتها ..

ولم أكن أقدر الهوان قط .. وظلت قاهرة المعز بمساجدها وكنائسها وقبابها ، وقلاعها .. وحصونها .. شامخة وعالية وجبارة .. ولن يقهرها أحد ..

ولم تهتز الصورة فى ذهنى أبدا .. بل ظلت متألقة وحية ..

وكنت أتحرك باعتدال وأحاول الاقتصاد فى كل خطوة .. وأبتعد عن جو الملاهى والمواخير وعن النساء ..

وخلال الساعات القاسية التى تحس فيها النفس بالموات .. كنت أذهب إلى ( كولون ) أو أتجول حول عربات الركشا التى تتقاتل على السائحين .. أو أذهب إلى الميناء وأقف على الرصيف أشاهد البواخر الضخمة وهى تفرغ حمولتها من الطرود الثقيلة أو تحمل بمثلها .. والعمال على الآلات الرافعة يبدون من بعيد كالعصافير ..
والميناء تتحرك كخلية النحل حركة جبارة ..

كان المنظر كله يشوقنى .. عرق العامل وزيت الآلات ودوى المحركات .. وصياح العمال وصفير البواخر .. كأن الدنيا لا تستريح ساعة ..
وكانت هذه التجولات تنسينى وحدتى ومتاعبى ..

* * *

وفى كل صباح كنت أحصى الدولارات التى فى جيبى قبل أن أخرج من غرفتى ..
وكان ذهنى يتفتق فى كل ساعة عن مخرج لحالتى ..

ففكرت أن أشتغل فى أحد البنوك وما أكثرها فى المدينة .. أو فى متجر وأنا أجيد الإنجليزية والفرنسية فإذا ضاقت بى سبل العيش سأشتغل ملاحا فى سفينة حتى أصل إلى ميناء عربى ..

* * *

وذات ليلة لمحت وأنا أدخل غرفتى رجلا طويلا يدير المفتاح فى الغرفة الملاصقة لى .. وكان أول ساكن أراه فى الجناح الذى أقيم فيه .. وأعطانى ظهره فلم أتبين ملامحه ..

* * *

ومرت أيام قليلة وبدأت أشعر بالفراغ والضيق .. ولم تستطع مباهج المدينة أن تمسح لوعتى .. وكتبت رسالة لأهلى لأعرف أحوالهم ولكننى لم أتلق ردا ، وأصبحت أحتبس فى غرفتى بعد أن كنت لا أطيق البقاء فيها ساعة ..

وبدأ الخوف من الجوع يعاودنى بشكل يثير الرعب .. فقد طرقت كل أبواب العمل فلم أوفق إلى شىء قط ، سدت الأبواب فى وجهى .. وغدت كل الوسائل التى فكرت فيها من قبل كمورد للرزق مجرد أحلام ذهبت مع الريح ..

* * *

وأصبح المال القليل الذى تبقى معى هو بمثابة حياة لى .. ولهذا حرصت على أن أحمله ولا أتركه فى غرفتى لأنى كنت أعرف من سفرى الطويل لصوص الفنادق ..

وقد جعلنى الاقتصاد فى النفقات أتعشى فى غرفتى حاملا معى فى كل ليلة أرخص الأطعمة فى السوق .. وبعد العشاء كنت أخرج إلى بهو الفندق لأشرب القهوة وأستمع إلى الموسيقى الصينية التى تذاع فى الراديو ..

وفى كل الحالات كنت أجد نفرا من النزلاء جالسين حول موائد متباعدة يشربون الخمر .. ولكنى لم أكن أختلط بأحد منهم .. وشاهدت جارى الذى رأيته من قبل وهو يدخل غرفته .. يجلس هناك فى الركن ويشرب وحده ..

وبدا لى من جلسته ، فارع الطول ، نحيفا وعروقه بارزة من عنقه وكانت صفحة وجهه إلى ناحيتى فبدت التجاعيد وخطوط السن .. وبشرته البيضاء الناعمة التى لوحتها الشمس كثيرا ..

وكانت عيناه ضيقتين وساكنتين ويظلهما هدب غزير أشهب كشعره كله ..

ومن ملامحه قدرت أنه أوروبى أو أمريكى لف الدنيا ثم حط رحاله فى هذه المدينة ..

وكان قليل الكلام مع الفتاة التى تقدم له الخمر .. وبدا من سكون جوارحه أنه شرب فى هذه الليلة كثيرا ..

وظل يشرب حتى انصرف النزلاء إلى حجراتهم .. وبقى وحده ..

وخرجت لأشترى علبة سجائر ولما عدت كان يصعد السلم أمامى إلى غرفته .. وظهر من حركات رجليه أنه لا يكاد يتماسك وكان يسقط فعلا فسندته بذراعى وظللت معه حتى أدخلته غرفته وشكرنى بحرارة على الباب ..

وأصبحنا نتلاقى بعد ذلك كثيرا .. فى الطريق .. وفى الميناء .. وعرف اسمى .. ولما سألنى عن جنسيتى قلت له إننى " تركى " .. وخشيت أن أقول له أننى مصرى لأننى حسبته إنجليزيا ونحن فى حالة حرب ..

ثم تبين لى أن الرجل لا يهمه من أكون وأنه فرغ من الدنيا ويعيش على هامش الحياة جواب آفاق ..

فقد رأى الهند .. والصين .. واليابان .. وأخيرا حط رحاله فى هونج كونج .. ولا يدرى إلى متى سيبقى ..

* * *

وفى مساء اليوم التالى بدا منشرحا مرحا وأخذ يفيض بمرحه على كل من يقابله فى البهو ..
وسألنى :
ــ هل أنت تاجر .. ؟
ــ أجل .. وجئت لأشترى صفقة من الحرير الصينى ..
ــ وهل تشترى الماس .. ؟
ــ إذا كان نادرا ..
ــ لدى قطعة نادرة من الماس لا تقدر بثمن .. هل تحب أن تراها .. ؟

وضحكت وأنا أحدق فى وجه الرجل الكهل وقد جرى فى عروقه دم الشباب وهو يتحدث عن الماس ..

ويسألنى متعجبا :
ــ لماذا تضحك .. ؟
ــ لأنك وقعت على أوعر أرض رن عليها حافر ..
ــ لا أفهم شيئا ..
ــ أعنى أنك وقعت على أفلس رجل فى الوجود ..

وأخذت أروى له قصتى .. وكيف جئت إلى هونج كونج .. وفوجئت بالحرب فى بلادى وتقطعت بى الأسباب ..
ــ لا تبتئس فأنت شاب تتحدث بأكثر من لغة وتستطيع أن تجد عملا .. فلا تفكر فى الموت جوعا ..
ولكنى كدت أموت من الجوع فعلا .. بعد أن سدت فى وجهى كل وجوه العمل ، وشعرت بالقنوط ، وكادت تقهرنى الحياة ..

ودخلت غرفتى مرتميا على الفراش وأنا أتصبب عرقا .. وفكرت فى الموت بدل الهوان وتمنيت المرض بالحمى لأموت ميتة طبيعية .. بدلا من الانتحار ..

ولكننى لم أمرض قط فى هذه الفترة المظلمة من حياتى رغم أننى كنت آكل أردأ الأطعمة ..

وظللت أفكر .. وأحدق فى سقف الغرفة .. وأتصور النزلاء الذين كانوا قبلى ومن سيأتى منهم بعدى .. أنهم سينامون على نفس السرير .. ومنهم الشريد والمحتال والطيب والشرير .. العبقرى الفذ والرجل الذى لا وزن له فى الحياة ولا قيمة ، سيرقدون على هذا السرير .. نفس السرير الذى يتغير ويستقبل فى كل يوم أو شهر نزيلا جديدا ..

وأحسست بالعرق غزيرا والحرارة خانقة .. فنهضت لآخذ حماما .. وخرجت إلى الطرقة المؤدية إلى دورة المياه ..

ولمحت وأنا راجع فى الغرفة الملاصقة لغرفة جارى من الناحية الشرقية .. وفى ضوئها الشاحب شابة صينية تجلس مسترخية على كنبة .. وقد جعلتها الرطوبة والحرارة لا تحس بوجودى ..
ولم أعرها اهتماما .. فما أكثر الفتيات فى هونج كونج ..

ثم أصبحت أراها كلما مررت فى الطرقة متخذة نفس الوضع وبابها مفتوح ..

ولعلها متضايقة من الجو القابض .. والرطوبة فى هذا الفصل من السنة .. لأن غرفتها صغيرة ولها نافذة خلفية تطل على مصنع للجلود .. وفوقه مكاتب الإدارة فأغلقت الفتاة النافذة حتى لا تشاهدهم ولا يشاهدونها فى مباذلها ..

وكانت لا تبرح غرفتها إلا قليلا .. وتقوم هى بتنظيفها بنفسها وترتيب فراشها ..

وشاهدتها ذات مرة راكعة تحت السرير وممسكة بالمجرفة .. ولما وقع بصرها علىّ احمر وجهها وغدا فى لون الأرجوان ..

* * *

وحملت بذلة جديدة وقمصانا ومنبها موسيقيا وساعة وكل ما قررت الاستغناء عنه من متاعى لأبيعه لتاجر صينى .. فى شارع ( تشين رود ) وأعطانى ثلاثمائة دولار هونج كونجى وسررت جدا وكان هذا المبلغ عندى يساوى ثلاثمائة جنيه استرلينى ووضعت المبلغ فى جيبى وركبت الباخرة إلى كولون لأشرب الشاى فى مشرب هادئ جميل كنت أتردد عليه عندما كنت ساكنا هناك ..

ولما اتخذت مقعدى رأيت الفتاة الصينية جارتى فى الفندق وكانت جالسة على مقعد فى الدرجة الثانية مثلى ولما بصرت بى ابتسمت وأحنت رأسها بحركة خفيفة ولا أدرى كيف عرفتنى وهى محبوسة فى غرفتها المظلمة دوما ..

* * *

وقضيت النهار كله فى كولون ، ولما عدت إلى الفندق فى المساء وجدت جارى ( البرت ) .. جالسا فى البهو .. وبجانبه القبعة التيلية التى يرتديها فى النهار ..

وأخذ يحدثنى عن المدن التى شاهدها منذ عشرات السنين .. وكأنه رآها بالأمس ، كان يحب الأسفار حتى غدت متعته الوحيدة ..

وسألنى فجأة ..
ــ هل تحب أن أريك الماسة .. ؟؟
وصعدنا إلى غرفته ..

وتناول محفظة جلدية أنيقة من الدولاب .. وأرانى ماسة مضلعة زرقاء .. أكبر من أن توضع فى خاتم .. ويمكن أن يزين بها صدر حسناء .. ليست ككل الحسان .. أو توضع على قمة الفصوص فى تاج امرأة .. امرأة ملكة على النساء جميعا ..

وأدارها فى يده .. فغابت الزرقة .. وأصبحت تشع كل ألوان قوس قزح مجتمعة .. وكلما حركها .. ازدادت فتنة ..
وفى كل وجه من وجوهها وهى تتحرك رأيت صور البشر .. بخيرهم وشرهم وآمالهم وأحلامهم ويأسهم وقنوطهم ..

وسألنى وهى لا تزال فى يده وعيناه تحدقان فيها :
ــ كم تقدر .. لهذه الماسة .. ؟
ــ لا أدرى .. فلست من تجار الماس وما لمسته يدى قط ..
ــ خمن ..
ــ مائة جنيه استرلينى ..

فضحك وقال :
ــ أنها تساوى أكثر من خمسة آلاف جنيه استرلينى ..
ــ ولماذا لا تضعها فى خزانة بنك .. ؟
ــ وماذا أفعل .. إذا غيروها بماسة زائفة .. أنت لا تعرف شيئا عن الماس ..
ــ ولماذا ترغب فى بيعها .. والاحتفاظ بها أحسن ..؟
ــ هذا صحيح .. ولكنى وحيد .. فقد فقدت أسرتى وتجارتى فى الحرب العالمية الثانية ..
وكانت الصدمة قاسية .. ولكن الأيام كفيلة بمسح الأحزان وانتهت الحرب ولم أفكر فى الزواج ..

وأشعل سيجارة وصمت .. كان يسترجع الذكريات .. ثم أضاف وقد تغيرت نبرات صوته ..
ــ ولما بلغت الشيخوخة صفيت أعمالى وأخذت أسيح فى العالم أجمع .. وقد رأيته كله .. حتى بلدك مصر رأيتها .. ومن طوكيو .. اشتريت هذه الماسة .. ولما حططت رحالى فى هونج كونج .. ورأيتها بهذا الجمال .. استقر قرارى على أن أبقى هنا ما شاءت لى الحياة ..
ــ لقد أحسنت الاختيار .. إنها مدينة جميلة حقا ..

قال فى صوت الحالم ..
ــ وفى هذه المدينة أخذت أفكر .. ما حاجتى إلى الماسة فى هذه السن .. ؟
سأستبدل بها شيئا جميلا أخذ على مشاعرى واستغرق كل تفكيرى .. سأبيع الماسة وأشترى بثمنها سفينة ذهبية ..
ــ سفينة ذهبية ..؟
ــ أجل ، هل ذهبت إلى ( أبردين ) وأكلت السمك فى السفينة العائمة .. ؟ ورأيت هؤلاء الناس الفقراء البسطاء الذين يعيشون ويموتون فى الماء دون أن يشعر بهم إنسان .. ؟
ــ نعم ذهبت .. وشاهدتهم ..
ــ سأعيش فى السفينة الذهبية مثلهم أعيش وأموت فى الماء ..
ــ وهل عثرت على السفينة ..؟
ــ أجل .. إنها فى الخليج .. وسأشتريها بعد أيام قليلة وأحقق أحلامى ..

وكان قد طلب زجاجة من البراندى .. وابتدأ يشرب .. وقدم لى كأسا فاعتذرت .. وحييته وصعدت إلى غرفتى ..

ويظل البرت فى مكانه إلى ساعة نومه .. كان نادر الخروج فى الليل .. ومن الساعة التاسعة تراه فى البهو يشرب الخمر .. ويتحدث مع من يألفه من السيدات النزيلات فى الفندق .. أو اللواتى يأتين من الخارج فى ساعات الليل ..
ومع أنه جارى ولكننى لم أشاهد قط امرأة فى غرفته ..

ومرت الأيام .. وهدأت نفسى القلقة بعد بيع حاجاتى ووجود دولارات معى تكفينى عدة أيام ..

وسررت جدا لما رأيت فى جريدة ( جنوب الصين ) خبر وقف القتال فى بلادى وأن الأعداء أخذوا يرحلون عن بور سعيد .. وهزتنى الفرحة فكتبت رسالتين لوالدى أعرفه بحالى وأبدى له رغبتى فى العودة ..
ثم أخذت أتجول فى المدينة ..

* * *

واستيقظت فى صباح يوم من أيام ديسمبر على زعيق جارى ( البرت ) وجريت نحوه .. وأنا أتصور أن النار اشتعلت فى ملابسه ..
ووجدته جالسا فى غرفته يرتعش ووجهه فى لون الرماد .. وقد برزت تجاعيده .. وأصبحت عيناه فى لون الجمر ..

وكان متهالكا على الكرسى بالبيجامة .. وقميصه أنشق عن صدره الهزيل .. ورجلاه متدليتان كالمشلولتين ..

ولما دخلت لم يتحرك وظل فى مقعده ورفع وجهه برهة ورأيت الدموع فى عينيه وأطرق ليخفى دمعة ..
وعرفنى أن الماسة سرقت .. ولا يعرف السارق ..
فالغرفة يدخلها معظم الخدم فى الفندق ..

ودارت عيناى فى الغرفة .. تتفحص الدولاب والكنبة .. والطاولة .. والسرير .. ثم جلست بجانبه وأخذت أحادثه وأخفف عنه وقع السرقة بكل فنون الأحاديث ..

وكان الكرسى الذى أجلس عليه قريبا من السرير فلمحت على فراشه شعرتين طويلتين .. من شعر النساء .. وآثار جسم فى المكان المجاور له على المرتبة ..
ولم أشأ أن أحرجه وأسأله عن المرأة التى قضت الليلة معه ..

وقلت له :
ــ بلغ البوليس ..
ــ وهل هذا يجدى .. والخدم فى الفندق يتغيرون كثيرا .. وهناك النساء اللواتى يأتين من الخارج .. ولا يعرف الفندق عنهن شيئا .. وأكثر من واحدة منهن قضت الليل معى ..
وكان اعترافه مذهلا .. فلم ألاحظ عليه هذا .. وحسبته يكتفى بالحديث مع النساء ..

ولما علم كاتب الفندق بخبر السرقة جاء إليه وتجمع الخدم على الباب ..
وكانوا جميعا يطلبون إبلاغ البوليس ..
ولكن البرت رفض ..

* * *

وفى الليل لم يخرج إلى البهو كعادته .. وزرته فى غرفته .. ووجدته على حاله من الألم .. فأخرجت مائة دولار من جيبى وقدمتها له ..

فرفضها بشدة وسألنى :
ــ من أين هذا المال وأنت مفلس ..
وحدثته عن الأشياء التى بعتها ..

فظهر على وجهه الألم وقال :
ــ إن ما حدث قد حدث .. ولكن أرجو ألا تبيع شيئا آخر .. وفيما يتعلق بى فأنا معى من المال ما يكفينى والماسة كانت بالنسبة لى حلما .. ولكنه حلم ليل وذهب مع تباشير الصباح ..
وتركته .. بعد أن هدأت حاله قليلا ..

* * *

ومرت الأيام .. وسمعت نقرا خفيفا على باب غرفتى وأنا أتهيأ للنوم فنهضت لأفتح الباب ووجدت جارتى .. واقفة فى الضوء الشاحب .. مرتدية روبا حريريا مشجرا ثنته عند صدرها وتركت شعرها الأسود الطويل ينسدل وراء ظهرها متموجا شديد البريق ..

وقالت وكأنها ترانى لأول مرة :
ــ هل يمكن أن تعطينى جريدة ( جنوب الصين ) لحظات .. لقد رأيتها معك فى الصباح ..
ــ تفضلى ..
وأعطيتها الجريدة وانسابت وأنا لا أسمع صوت خفها ..

وعادت بعد نصف ساعة لترد لى الجريدة .. وقالت بصوت ناعم وإنجليزية سليمة :
ــ إن غرفتك جميلة وواسعة .. وليست كغرفتى الصغيرة .. الخانقة ..
ــ ولماذا لا تأخذين مثلها .. وهناك غرف خالية كثيرة ..
ــ ومن أين أدفع وأنا فقيرة .. إن غرفتى بخمسة دولارات .. وأنت تدفع ضعف ذلك ..
ــ سأدفع سبعة فقط ..
ــ لقد أكرمك ( منج ) لأن إقامتك طويلة ويعرف أنك مصرى .. أعطنى سيجارة ..

وأخذت تدخن .. وهى واقفة .. وبدت متوسطة الطول رشيقة القامة .. وبشرتها الناعمة تتأذى حتى من لمس الحرير الذى على جسمها ..

وقالت بعد صمت :
ــ هل رأيت جارنا النمسوى العجوز ( البرت ) .. إنه مسكين حقا .. كيف ضاعت منه الماسة .. هل يتصور شخص فى الدنيا أن عنده ماسة .. لعله .. يكذب ليستدر عطف النزلاء .. لقد رأيتك وأنت تقدم له الدولارات .. إنه محتال وأنا أعرف حيل هؤلاء العجائز ..
ــ لا تظنى بالرجل الظنون .. فهو صادق .. وقد رأيت الماسة بعينى ..
ــ ونادرة كما يقول ..
ــ أجل .. من الماس النادر ..

وعادت تتطلع إلى الغرفة .. ثم جلست وكانت السيجارة لا تزال مشتعلة فى يدها ..
ــ إن غرفتى خانقة .. هل تسمح لى بأن أقضى الليل معك ..
ــ آسف .. أنا ..
ــ ماذا .. ؟!
ــ مفلس ..
ــ مفلس .. وكيف قدمت الدولارات للنمسوى العجوز .. إذن ..
ــ هذا شىء آخر .. وما زلت مفلسا ..
وظلت تبتسم ويدها تعبث بطرف ثوبها .. ثم خرجت ..

* * *

وفى ليلة من ليالى الخميس ألفيت ( البرت ) فى البهو .. وكان متهلل الوجه يضاحك كل من يراه .. بنشاط ومرح وكأنه عاد إلى شبابه .. وأخبرنى أنه وجد الماسة أمس بجانب سريره لما دخل غرفته لينام ..
وابتهجت لهذا جدا ..

وفى يوم السبت الذى بعده دخلت مشربا للشاى فى شارع ( كوين رود ) وكانت الساعة لا تتجاوز الثامنة مساء فرأيت وأنا أكتب رسالة لوالدى .. جارتى فى الفندق جالسة إلى مائدة وحدها ولم أشاهدها وأنا داخل .. لأنها كانت منزوية فى ركن وحييتها ..

وجلست معها بعد أن فرغت من الرسالة .. وبعد حديث طويل قلت لها :
ــ هل ترافقينى غدا فى رحلة بالقطار .. ؟ إلى لو و ..
وسألت بخبث ..
ــ وهل معك نقود .. ؟
ــ أصبح معى ..
ــ كيف .. هل سرقت البرت العجوز .. ؟
ــ قد وجدت عملا ..
ــ حقا .. أين ..؟
ــ فى مكتب " وانج لى " للسياحة بشارع هليوود رود ذهب معى البرت إلى صاحب المكتب صباح الجمعة فشغلنى على التو ..
ــ وسيدفع لك أجرا مجزيا .. ؟
ــ بالطبع أجرا عاليا ولكن هذا لا يهم .. المهم أن أرافق السائحات ..

وظهر على وجهها الغيظ لحظات ولكنها كتمته ببراعة وابتسمت ..

ومرت الفتاة العاملة فى المشرب بجانبنا ترفع أقداح الشاى وكان شعرها أسود متموجا جميلا .. ولاحظت مرافقتى أننى أطيل النظر إليه ..

فقالت :
ــ شعرها جميل .. ؟
ــ إلى حد .. ولكننى وجدت شعرتين سوداوين أكثر جمالا على فراش ( البرت ) العجوز فى الصباح الذى اكتشف فيه ضياع الماسة فى نعومة شعرك وجماله وطوله ..

وحدقت فى وجهى باستغراب .. ثم انطلقت تضحك حتى اهتز صدرها ..

وقالت برقة :
ــ صحيح .. هل حدث هذا .. ؟
ــ أجل .. والشعرتان معى ..
ــ ولماذا تحتفظ بهما ..؟
ــ لأنهما تذكار جميل ..
ــ وهل عرفت صاحبتهما ..؟
ــ أجل .. فلا يوجد شعر فى هذا الجمال .. وهذا الطول .. غير شعر نزيلة واحدة فى الفندق ..

وصمتنا مدة طويلة لا ننطق بحرف .. وساعد على الصمت هدوء المشرب .. والستائر الحريرية المسدلة فى كل الزوايا .. والإضاءة الخفيفة والموسيقى الصينية .. الناعمة ..

وأخيرا حركت شفتيها وهى لا تنظر ناحيتى كأنها تحدث شخصا آخر ..
وقالت :
ــ تحدث أشياء فى نفس الإنسان لا يستطيع تفسيرها .. ولا تعليل جزئياتها الصغيرة ، وتراه يفعل الشىء وضده فى وقت واحد .. الخير .. والشر .. معا ويتغير ويغير نهجه فى الحياة لأبسط الأشياء التى تحدث .. أشياء بسيطة ولكنها تحركه وتجعله ينتفض ..

وعندما رأيتك تقدم النقود لالبرت العجوز وأنت على حالك من الإفلاس .. وتحتاج لكل سنت منها أصابتنى رعشة .. ولم أستطع التخلص من الأفكار التى ألحت على وظلت تلح وأخيرا فعلتها .. ولم أندم .. أنا سعيدة جدا ومن الفرحة أحس بخفقان قلبى ..
ــ إنك نبيلة .. وهذا كرم كبير منك .. فما كان أحد يعرف اليد التى امتدت وأخذت ولقد طويت الصفحة .. وكاد ( ألبرت ) ينسى ..

وأشعلت سيجارة أخرى وسبح الدخان الأزرق فى خيوط وتبعته ببصرى وسألتنى وهى تتكئ بكوعها على المائدة :
ــ وإذا وصلتك النقود من مصر .. سترحل وتترك الوظيفة .. ؟
ــ طبعا .. مع أن الوظيفة ممتعة للغاية ..
ــ ترحل .. وأنا لم ألمس حتى يدك أو أعرف اسمك ..؟
ــ اسمى جعفر .!
ــ وأنت بماذا أسموك .. بكل ما فيك من جمال .. ؟
ــ " يه ونج " .. وستضع " يه ونج " شعرها كله على وسادتك الليلة ..

وبارحنا المشرب وأخذنا نسير متمهلين فى اتجاه الميناء .. وقد بدت المدينة راقدة فى الليل على التلال وساكنة وصدرها يلمع بحبات الزمرد ..
ولا أحد يعرف ما يجرى فى جوفها من فعل البشر ..

================================
نشرت بمجموعة قصص لمحمود البدوى وتحمل عنوان القصة " السفينة الذهبية " فى عام 1971 وبمجموعة " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
===============================