الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧

قصة بائع الصحف




بائع الصحف
قصة محمود البدوى

ذهبت إلى « هونج كونج » فى الصيف الماضى فى رحلة بهيجة تثلج القلب على متن إحدى الطائرات النفاثة .. وكانت تشق الفضاء فى سرعة الصاروخ .. وكل من أعرفهم قد حذرنى من عربة « الركشا » ومن الادلاء فى مدينة الأعاجيب ..

ونزلت فى فندق صغير فى شبه جزيرة « كولون » لهدوئه وقربه من المطار وبين مدينة « كولون » وهونج كونج بوغاز تعبره البواخر فى نزهة بحرية منقطعة النظير نزهة بين أجمل مناظر الطبيعة وفى أبدع ما خلق اللّه وصنعت يد الإنسان وتجمع هذه البواخر فى ذهابها وإيابها خليطا من كل أجناس الأرض ندر أن يجتمع مثله فى مكان آخر ..

وهى مع كثرتها ودقة مواعيدها مزدحمة دوما بالركاب العابرين ويبلغ الزحام أشده قبل التاسعة صباحا وبعد الخامسة مساء .. حيث ينحدر سيل الموظفين الخارجين من البنوك والمحلات الكبيرة إلى الميناء حتى يسدون كل منافذ الكوبرى المعلق المفضى إلى الطريق ويتدافعون عليه بالمناكب من هول الزحام ..

والسائح النازل فى « كولون » لا يستغنى أبدا حيث جمال الطبيعة فى التلال الزمردية والهضاب الشهباء وحيث الذهبية العائمة فى سواحل « ابردين » وصيد السمك فى خليج « استانلى » ..

ولهذا كنت أعبر البوغاز فى كل صباح وأذهب إلى « هونج كونج » فأجلس فى مشرب من مشارب الشاى فى " كوين رود " قريبا من بنك الصين أتأمل حركة السيارات والمارة من كل بقاع العالم وأطالع الصحف والمجلات الإنجليزية كما أقرأ الجريدة المحلية .. التى تصدر فى هونج كونج باسم " جنوب الصين " .. وكنت أبتاع هذه الصحف من بائع صينى عجوز مقطوع الساق كان يتخذ له مكانا مختارا تحت الباكيه ..

ووقع فى تقديرى أنه خاض غمار الحرب العالمية الثانية .. عندما غزا اليابانيون المدينة واكتوى بنارها ففقد ساقه .. وكان الرجل يركز عصاه على جدار البنك .. ويجلس متنبها يقظاً لكل حركة فى الطريق .. وبجواره صف من ماسحى الأحذية وأمامه على الرصيف الآخر طابور من عربات " الركشا " التى تتحرك إلى قلب المدينة أوتنطلق إلى الهضبة ..

والفيت الرجل رغم العجز الذى أصابه ضاحك السن أبدا مرحا شديد الحيوية ويتحرك بعكازه كأنه يعدو على قدمين من فرط ما فيه من نشاط وصحة ..

كما أن جواره للبنوك جعله على دراية بالعملات الأجنبية فكان يبيع الصحف بالدولار الأمريكى والجنيه الإسترلينى والروبية الهندية والينات اليابانية .. والفرنكات السويسرية والفرنسية ..
ولم يكن يرفض أى عملة على الإطلاق ..

وبدا لى من شخصيته المهيبة أنه هو الذى يحرك عربات الركشا ويمسك خيوطها ..

وجعلتنى ساقه المقطوعة أعطف عليه فكنت أشترى منه الصحف والمجلات بدلا من شرائها من " كولون " .. كما فى كثير من الحالات أترك له الفكة الصغيرة وأمنحه علب السجائر المصرية إذ كان يدخن بنهم ..

ولم يكن من عادتى أن أركب الركشا ولا الترام لأنى أحب السير على قدمى فى المدينة .. لأعرف كل شىء فيها وأدخل فى منعرجاتها ودروبها .. وأشاهد المتاجر وأرقب حركة الناس عن كثب ..

وكانت تشوقنى حركة المدينة السريعة فى العربات والسيارات والناس ونشاط أهلها العديم النظير ..

* * *

وكان فى جيبى شىء جعلتنى الظروف ألا أتركه فى الفندق .. وأدور به أينما حللت إذ كنت أحمل عقدا من اللؤلؤ الخالص اشتريته لوالدتى من طوكيو ..

وخشيت لو تركته فى الفندق أن يستبدل بعقد زائف ولا أستطيع أن أميز بين الزائف والصحيح أبدا .. أو أن يسرق وهذا أسهل الأشياء حدوثا ..

ولشدة اهتمامى به وحرصى عليه ولصوقه بجيبى .. كثيرا ما كنت أنساه .. فى أحوال ومتعددة ، كما ينسى المسافر حقيبة نقوده فى سيارة أجرة أو فى عربة القطار فإذا تذكرته انخلع قلبى هلعا .. ثم أتحسسه وزيادة فى التأكيد أخرجه من جيبى بطابع الوسوسة لأنظر فيه ثم أعيده إلى مكانه .. وأنا أتلفت حولى خشية أن يرانى أحد النشالين ... فيتبعنى ..ولما كنت مشوقا لأن أصعد الهضبة فى الليل وأركب الترام الصاعد . فقد اخترت أول الليل لهذه الرحلة.. لأنى سمعت كثيرا عن حوادث السطو فى الغابة ..

وقضيت فى المدينة الجميلة أسبوعين وأنا أرى فى كل يوم منظرًا ساحرًا جديدًا .. وشيئا غريبا لاتقع على مثله العين فى أى مكان ..

وكان أكثر ما يسرنى أن أقف أمام الأعرج أتناول منه الصحف .. وأجاذبه الحديث وأنا شاعر بالصفاء وبمودة القلب .. وبالإخاء الإنسانى الفطرى الذى فى كل البشر ..

ولم أكن أدرى أين مضجعه .. أيسكن فى " كولون " أم فى ضواحى هونج كونج " .. ولكن فقره كان ظاهرا للعيان ويعيش بقوت يومه وما سمعته يشكو من شىء أبدا .. ولما علم أننى فلاح مصرى حثنى على أن أشاهد الريف فى القرى المحيطة " بهونج كونج " وأذهب إلى " لوو " .. لأرى الفلاح الصينى هناك كيف يحرث الأرض ويزرع الحب على ماء المطر ..

* * *

وذات ليلة .. وكانت الساعة قد بلغت التاسعة .. وحركة السابلة فى الطريق قد خفت قليلا .. واللافتات باللغة الصينية وبالحروف الكبيرة المضاءة بالنيون تغطى واجهات الحوانيت ..

والمطاعم الصغيرة تعرض فى المدخل ما عندها من صنوف الطعام ..

فرأيت صحاف الأرز الكبيرة والمرقة تسبح فيها الكرشة .. ولحوم العجول والطيور فى أطباق صينية واسعة ..

لاحظت خفة الحركة فى الطريق والرجال فى الحلل الأوربية أو الصينية والنساء فى الجيوب المشقوقة والبلوزة الحريرية الحمراء .. وكان اللون الأحمر يغلب على كل الألوان وجذب انتباهى لافتة صغيرة مضاءة باللون الأحمر .. فى مدخل طويل على جانبه صف من الدكاكين الصغيرة التى تبيع القداحات والعطور والمراوح وتماثيل الخزف والعاج صف منسق .. كأنما وضع تصميم هذه الحوانيت رسام بارع .. وكان نصف الحوانيت مضاء والنصف الآخر .. قد أغلق أبوابه ..

ووجدت نفسى تحت اللافتة وأمام ستار حريرى مضفر فدفعته ودخلت فى سكون فى حجرة شاحبة الضوء وكان البخور يعبق فى جو المكان وموسيقى خفيفة تصدح ..

ونقر أشبه بنقر الدف ولكنه يأتى من فوق .. وليس فى المكان ..

ووجدت نفسى بعد نصف دقيقة أتسمر على كرسى خشبى .. وأخرج ستة دولارات من عملة هونج كونج .. وأمد يدى لقارئة الكف .. الصينية العجوز .. وكان بجوارها فتاة تابعة لها .. ورجل يتحرك من وراء الستر هناك ولكنه لم يظهر ولم أر طلعته قط ... فى مدى النصف الساعة التى قضيتها فى المكان .. وقالت لى العجوز كلاما غامضا عن المستقبل والحياة .. فى جو كله سحر وغموض .. ولكننى استرحت إليه جدا ..

وكانت رائحة البخور تزداد حتى أننى أحسست بالاختناق ..
فنهضت فى ثقل وانسحبت إلى الخارج ..

ولما عدت إلى الطريق التى دخلت منها وجدت كل حوانيتها قد أغلقت والظلام يبسط رواقه .. فشعرت بالخوف .. وتحت باكية لمحت نصلا يلمع فى وجهى فجريت مفزوعا حتى بلغت الشارع الرئيسى وأنا ألهث ..

وسمعت صوتا .. وحركة أقدام سريعة خلفى وعراك لم يستمر طويلا ..

وخيل إلى أننى سمعت صوت الأعرج وحركة عكازه على الأرض ..
ولما تلفت لم أجد أى شخص ..

* * *

وفى ليلة من ليالى السبت وكنت قد تجولت طويلا فى « هونج كونج » عبرت البوغاز على باخرة حالمة وأنا شاعر بالتعب والنعاس ..
ولما بلغت الفندق تفقدت عقد اللؤلؤ فلم أجده ..

فرغم حرصى الشديد نشل منى بطريقة جهنمية .. وتألمت غاية الألم .. حتى إنه لم يغمض لى جفن فى تلك الليلة ..

وفى الصباح شاهد " الأعرج " ما على وجهى من حزن .. فتصور أنى مريض .. وسألنى عن حالى ..
ولما كان قلبى مثقلا بالغــم .. فقد رأيت أن من الخير لى أن أقص على الرجل الخبر لأنفس عن نفسى .. وأسأله إن كان من الأوفق أن أبلغ البوليس ..
ولما أخبرته تغير لونه وتألم ..
ثم قال :
ــ لا عليك .. إنه فداك ..
ــ أليس من الأحسن أن أبلغ البوليس .. ؟
ــ وما الذى يفعله .. فى مدينة كهذه تعج بالنشالين .. ؟ ربما كان العقد الآن فى جيب أحد المسافرين إلى نيودلهى أو بانكوك ..
ــ أتقصد أن النشال باعه .. ؟
ــ بالطبع .. وبأ سرع مما تتصور ..
وزاد هذا من حزنى وفقدت الأمل كلية ..

ومرت أربعة أيام وكلما ركبت الباخرة إلى « هونج كونج » وعبرت البوغاز .. ورأيت اللافتات فى كل مكان بالإنجليزية تحذر من النشالين زاد غيظى ..

ولما انتويت السفر يوم الخميس التالى .. فقد ودعت الأعرج .. فى مكانه تحت الباكية وعانقته ..

وفى صباح يوم السفر وأنا خارج من بهو الفندق وأهم بركوب السيارة إلى المطار .. وجدت الأعرج يتوكأ على عكازه .. كان فى انتظارى ..

وعجبت كيف عرف الفندق الذى أنزل فيه وما حدثته عنه قط .. ولكن عجبى الأكبر كان عندما مد لى يده بشىء مطوى فى علبة ..
وقال باسما :
ــ لقد جئت بهدية صغيرة وأرجو أن تقبلها ..

ولما لمحت نفس العلبة التى سرقت منى ارتجف قلبى ..
وتناولتها ... وفتحتها .. فوجدت عقد اللؤلؤ ....

واخضلت عيناى بالدمع وأنا أنظر إلى الرجل صامتا وما أستطيع أن أنبس بكلمة شكر وكان هو معتمدا على عكازه فى هدوء وعلى وجهه السكينة وكأنه ما فعل شيئا ..
================================
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 23/4/1970 وأعيد نشرها فى كتاب " قصص من هونج كونج "
من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2001
======================================

ليست هناك تعليقات: