الثلاثاء، ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧

قصة حانة البحار السبعة



حانة البحار السبعة
قصة محمود البدوى

تقع حانة البحار السبعة فى أجمل مكان على هضبة هونج كونج ..حيث التلال الزمردية وشجر الورد والتفاح والدردار .. وحيث أجمل ما خطت يد الطبيعة على وجه البسيطة ..

وكانت منحوتة فى جوف الصخر ومتخذة شكل التنين .. وتغطيها وتحيط بها الأشجار والأزهار .. وتدور بها طرق سوداء ملتوية كأنها طرق الحيات .. ولا يدرى أحد من أين جاءتها هذه التسمية وهى بعيدة عن البحر وعن الميناء .. ولا يدخلها بحار وندر أن تعرف مكانها بغير دليل ..

ولكن هونج كونج مدينة العجائب .. وحيث توجد أبردين .. ويوجد مائة ألف صينى يعيشون ويموتون فى الماء .. من الفقر والجوع فى زوارق فى حجم الذراع يوجد فى الجانب المقابل عشرات فقط من الأسر الإنجليزية الغنية على تخوم استانلى .. وتوجد الفيللات الأنيقة منثورة كالدر على صدر الهضبة .. ويوجد ألف متشرد ومتسول على أرصفة شستررود .. وكوين رود .. ودى فورود .. ويوجد ألف سائق لعربة يجرها الإنسان ..

ويوجد حشد عديم النظير يتحرك فى الشوارع حيث المتاجر والحوانيت الصغيرة والكبيرة فى قلب المدينة حيث السوق المفتوحة التى لا تخضع لأى قيود على الإطلاق ولا يوجد لها ضريب ..

وعندما تغلق الحوانيت والمتاجر تسطع أنوار الملاهى والحانات فى ليل هونج كونج الطويل ويظل الصخب والرقص فى مراقص من كل الأنواع تتخذ طابع البلاد المختلفة وفيها فتيات جميلات من الرقيق من كل أجناس الأرض .. يعشن حياة تعيسة .. ويذبل جمالهن قبل الأوان .. كما تذبل الزهور الناعمة تظل هذه المراقص المتخذة طابع المراقص الصينية والهندية والباريسية والتركية ... كما تسمع نقر الدف .. وصوت الجاز .. تظل صاخبة إلى الصباح ..

ولكن حانة البحار السبعة كانت تختلف عن كل الحانات .. فهى هادئة فوق الربوة .. بعيدا عن صخب المدينة وكأنما أوجدتها الطبيعة فى هذا المكان .. لينعم بها الشعراء والفنانون .. وتصعد إليها التل فى طريق لولبى وتدخل من باب معرش ثم تدفع بابا آخر سحريا وتهبط ثلاث درجات .. إلى قاعة واسعة منخفضة السقف سميكة الجدران تتفرع منها ثلاث قاعات مستطيلة فى مثل جمال الأولى ..

وفى القاعة الرئيسية بار نصف دائرى .. وعليه يقف كبير السقاة تشن .. بقامته المنتصبة ووجهه البيضى .. وقد لبس صدارا أحمر .. وسروالا .. من نفس اللون .. وراح يحملق بعينين مضمومتين فى القاعة الساكنة وفى ربة الحانة مدام يات وهى سيدة بدينة سمينة الخدين فى الأربعين من عمرها ترتدى ثوبا أسود يصل إلى العنق .. وتنفق كل وقتها وهى جالسة هادئة لا تتحرك أمام البنك ..
ولكن عينيها لا تغفلان لحظة عن الزبائن والسقاة ..

وكانت جدران الحانة مزينة بالنقوش والزخارف الصينية وعلى صدر المنصة صورة لتنين هائل .. وعلى الرفوف الجانبية التماثيل الخزفية وأصداف المحار وصور زيتية رائعة لمعبد بوذى .. وتمثال دقيق الصنع لبوذا نفسه ..

وكان على أديم الأرض بساط أحمر يغوص فى سمكه القدم والمناضد .. والكراسى مكسوة بالقطيفة الحمراء أيضا وبلورات المصابيح مكسوة بالحرير الطبيعى فى لون العناب ..

وفى الصدر المواجه للمدخل صورة كبيرة لقرصان ضخم .. يحمل فتاة عارية بين ذراعيه .. ويسير بها على جسر السفينة .. متجها إلى المقصورة ..

وكان فى الحانة ثلاث فتيات من السقاة .. صينيات ناعمات البشرة صفراوات ولم يكن دميمات ولا جميلات .. ولكن مودتهن .. وابتساماتهن وثوبهن المشقوق عن الفخذين كان يرضى الزبائن ..

وفى الطرف الجانبى من القاعة باب صغير يؤدى إلى ممر متعرج يفضى إلى غرفة معتمة محجوبة عن الأنظار بستائر من المخمل ..
ووضعت على أرضها الحشيات اللينة من الريش والوسائد الناعمة ..

وفى هذه القاعة السحرية الخفيفة الضوء التى يحوم فى جوها البخور يدخن الرواد الأفيون فى صمت عميق ويستمعون إلى الموسيقى الهادئة ..

وكانت ربة الحانة ترعى هذا المكان السحرى بقلبها وعينيها .. وهى جالسة أمام البنك .. وترقب فى الوقت نفسه الفتيات يغسلن الأكواب .. ويمسحن الصحون بالمناشف ..

وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا .. وقد فتحت أبواب البنوك الكبيرة والمتاجر وبيوت المال فى هونج كونج .. وعادت الأقدام السريعة للرجال والنساء تهبط الكوبرى بعد أن تخرج من السفن القادمة من « كولون » .. وتتجه إلى قلب المدينة ..

وتحركت عربات الركشا الواقفة فى انتظارهم لتنقلهم إلى السوق داخل المدينة وإلى نزهة خلوية فى الضواحى وفى جولة على الربوة ..
وكان « لو » يقف بعربته الركشا على الجسر الثالث هناك فى مرسى البواخر يرقب الخارجين من السفن عن كثب .. ثم يحرك الركشا فى تؤدة إلى أن يجد الزبون فيدور به فى جولات سريعة فى شوارع كوين رود وشستر رود ..

وفى خلال جولاته يحادث الراكب بإنجليزية سليمة ليعرف وجهته ثم ينطلق به أخيرا .. إلى حانة البحار السبعة ..

وكان من طبع « لو » أن يجتذب الزبائن الذين يسعون وراء الأشياء الغريبة أو الذين يعذبهم الفضول ليكتشفوا الجديد .. أو الذين يحبون أن يشتموا رائحة العنبر .. وكل ما اشتهر به الشرق العجيب ..

وكان قد حمل إلى المكان عجوزا أوربيا فى نحو السبعين من عمره يدعى سميث قضى زمنا طويلا متنقلا فى البحار ثم جاء إلى هونج كونج ليعيش على هواه فى أحد فنادقها وكان يقضى النهار والليل فى الحانة ولا يكف عن الشراب وتدخين الأفيون ..

وكان قد شعر بوطأة الوحدة فى شيخوخته .. فأخذت الفتيات يؤنسن وحدته بالحديث والغناء والضرب على القيثارة وصاحبة الحان تدرك حاله كعازب فرغ من حياته .. وتخصه بعطفها ..

ولكن نظرته مع كل ما يحيط به من نساء وبهجة ظلت حزينة ..

وكان يخاف ويعاوده الخوف من الموت ويود أن يتزوج من صبية شرقية .. صينية أو يابانية أو هندية .. قبل أن ينفد أجله ..

* * *

وكانت الشمس قد أرسلت شعاعها الأصفر .. من خلال أوراق الأشجار .. ولكن سميث فى قبوه لم يكن يبصر شعاعها أبدا ..

وتهدج صوته وهو يقول للساقية :
ــ هل من سبيل يغنى عن الأفيون .. هل تتزوجيننى .. ياحلوة .. وسأجعل قلائد العقيق والماس والزمرد تغطى هذا الصدر الجميل ..
ثم بعد عشر دقائق كان يغط فى النوم على الأريكة ..

وسمع صياحا وجلبة فاستيقظ وكان ثلاثة من البحارة قد نفذوا إلى المكان وهم سكارى فجلسوا يشربون ويغنون .. ويجذبون إليهم الفتيات ليرقصن معهم .. ولم تكن من عادة البحارة أن يأتوا إلى هذا المكان أبدا ولم تكن ربة الحانة تحب وجودهم .. لأنهم يثيرون العراك والصخب .. والعراك يستدعى تدخل البوليس وهى لا تحب أن يدخل البوليس المكان .. وتود أن تظل الحانة على مستوى عال للخاصة والقلة المختارة من السائحين التى تعشق الهدوء قبل أى شىء آخر ..
واحتارت ماذا تفعل ..؟
وكان تشن يود أن يتدخل ولكنها منعته .. وظل فى مكانه ..

ورأى مستر سميث الحمرة على وجهها وكان قد خرج إلى القاعة على صوت البحارة فتقدم إليهم ليهدئهم بإنجليزيته الناعمة .. ولكنهم ازدادوا هياجا .. وأمسكوا به ليضربوه ..

وفى اللحظة التى تصور معها الرواد أن سقف الحانة سيسقط عليهم .. دخل « لو » .. وأمسك بالبحارة الثلاثة وقذف بهم إلى الخارج وهناك أوسعهم ضربا وبدت قوته كمارد جبار .. وهو يصارع الثلاثة ويطاردهم وأخيرا فروا مذعورين .. وكانت ربة الحانة تتوقع عودة البحارة الذين ضربوا ومعهم بحارة السفينة جميعا .. بعد ساعة على الأكثر لينضموا لرفاقهم ..

ولهذا طلبت من لو .. أن يبقى فظل قريبا من المكان .. ومنذ تلك اللحظة أصبح قريبا من قلبها .. وخصصت له القبو لينام فيه ..

* * *

وأسدلت الستائر المخملية على المكان كله وأطلق البخور وأضيئت المصابيح الصينية كأنها قناديل من الزيت فى صحائف من الدر .. وكان ضوؤها يضفى على المكان جوا من السحر الحالم وبرزت للمشاهد من وراء الطاقات الصغيرة أشجار السرو والتين والبرقوق .. وتجلت غصونها المتموجة فى ضوء الشمس الباهر ..

ووفد على المكان بعض من السائحين والسائحات وابتدأت الموسيقى تعزف ألحانا راقصة ..

وخرج الراقصون والرقصات إلى باحة مسقوفة بأوراق الشجر .. ودار الرقص .. وظلت الموسيقى تصدح بالأنغام الشجية .. وكأنها تنوح على ما حاق بالإنسان .. من عذاب عبر القرون ..

واختلطت رائحة العطر .. برائحة التبغ والبخور .. والأفيون وذلك الأريج المنبعث من الحديقة ..
ولم يحول سميث عينيه عن عين فتاة بيضاء جميلة أطلقت العنان لساقيها .. وكانت تضع ذراعها على كتف مرافقها وتنثنى فى رشاقة وهى ترقص ..

وكان يلمح أحيانا طرف قميصها التحتى وهى تتطاير من دورانها السريع .. واختلطت الأحاديث والضحكات بالأقدام .. فى المرقص ..
وكانت الساعة قد أشرفت على الواحدة بعد الظهر ..

وبدأت قاعة الرقص تموج بالراقصين قبل فترة الغداء وأخذت الفرقة الصينية تعزف موسيقى صينية خفيفة ..

وكان العازفون الثلاثة فى قمصانهم الحمراء الزاهية الواسعة الأكمام وعلى رءوسهم الطواقى الحمراء بالزيق الأبيض والأصفر ..
وينتثى الزبائن بما شربوا من الخمر .. وتحمر وجوههم ..

ولكن ما من واحد منهم يتحرك من مكانه .. وكان الهدوء يخيم على المكان .. والبخور والسحر الصينى وجو القاعة كله يجعلهم يجلسون ذاهلين عن أنفسهم ..

وساعات النهار التى تعقب فترة الغداء كانت تمر بطيئة متثاقلة وكانت ربة الحانة تغفو فى خلالها ساعة واحدة .. ثم تشير برأسها إلى الفتيات فيتحركن .. ويأخذن فى مسح الأوانى والأكواب والصحون وتلميع كل شىء .. ووضع الزهريات الخزفية فى مكانها .. وهصر الستر .. وادخال الشعاع السحرى فى عينى التنين ..

وكانت شمس أكتوبر الحارة يعقبها المطر الخفيف فى كثير من الحالات ولكن رواد الحانة كانوا لا يحسون بشىء من هذا كله . ففى هذا القبو المظلم .. المنقطع عن الحياة .. توجد دنيا أخرى بهيجة وحالمة ..

وخلال الوجبات .. كانت تقدم الأكلات الصينية .. الشوربة وفيها تسبح الكرشة .. ولحم الطيور والسمك والمحار .. والأوز .. المخلوط بلحم العجول .. ثم البط القادم من بكين ..
وفى خفة ورشاقة تروح الفتيات ويجئن حاملات الصحون .. وسيقانهن العارية تبدو من خلال ثيابهن المشقوقة من الجانبين كأنها تطلب المزيد من الحرية ..

ثم تتحرك فتاة وحيدة وتدور على الموائد حاملة على صدرها صندوق السجائر .. وتنادى بصوت رخيم ..
ــ سجائر .. شكولاتة ..

فإذا أشار اليها أحد الرواد .. انحنت عليه برأسها وقربت شفتيها لتلقط ما يقول ..
وتحرك يدا رخصة وتخرج علبة أنيقة مغلقة ..

ويلقى إليها بالدولارات من غير حساب فتنحنى عدة مرات وهى باسمة .. ثم تتحول إلى مائدة أخرى ..

وفى خلال الفترة التى بعد الظهيرة .. كان يهوم شىء أشبه بالنعاس على الحانة ..

وكان « لو » يريح الركشا تحت ظل الأشجار .. ويدخل الحانة ليشرب كأسا .. ويجلس إلى منضدة كأنها أعدت له وحده ولم يكن غيره يقربها ..

وكانت الفتاة تضع له الكأس صامتة دون أن تتحرك شفتاها بحرف .. ويرفعه فى جرعة واحدة .. وهو يرمق المدام صاحبة البار بعينين نديتين .. ويسترخى مرسلا بصره إلى السقف .. والى الرسومات على الجدران ..

والساقية تقطع عليه أحلامه مرة أخرى وتضع أمامه صحنا من الأرز المخلوط بلحم البقر .. فيحرك العصوين .. فى الحال .. وتبرز طباع الصينى الأصيل فى هذه الأكلة الشهية ..

وكان يرسل وهو يحرك فكيه تحية خالصة لربة الحان التى أرسلت له الطبق فوق الحساب ..

وتبدو فى هذه اللحظة سنتان من الذهب فى الصف العلوى من أسنانه وهما تلمعان .. ثم يطبق فمه على سيجارة وبعد أن يدخنها ويستريح قليلا .. ينطلق بالركشا كالسهم .. إلى الميناء ولم يكن هناك من يعدو فى مثل عدوه .. كان سريع العدو طويل العود أطول من تقع عليه العين فى هونج كونج .. وأشد الرجال ساعدا ..
وكان كل الناس يعرفونه ... ويكلفونه بأشياء ..
ــ هات لى جريدة جنوب الصين .. يالو وأنت راجع ...
ــ أرسل هذا فى بريد كولون يالو .. أرجوك ..
ــ أعط .. هذا لمستر هنرى .. يالو .. فى بنك الصين .
وكان صف عربات الركشا يقف قريبا من الميناء ..
وأصحابها يقطعون على المارة الطريق فى رذالة ويجبرونهم على الركوب .. ولكن « لو » .. يقف صامتا حتى يتقدم إليه الراكب .. فيتحرك بأدب .. ويسأله عن وجهته ..

وكان الذى يركب دون أن تكون له وجهه معينة يتجه به إلى الحانة بعد جولة قصيرة فى المدينة ..

ولم يكن من طباعه أن يشتط فى الأجر .. فالدولار فى يده كالثلاثة .. المهم أن يأتى براكب جديد ..

وكانت عربته إذا قارنتها بسواها من العربات أنيقة وكرسيها مريحا ومغطى بالقطيفة .. وكان أكثر السائحين يختارونها لأناقتها ولأن لو يعتبر بمثابة الحارس لهم فى جولاتهم فى غابات هونج كونج وأحراجها .. وشوارعها المتعرجة ودروبها الطويلة ..

* * *

وفى أمسية من أمسيات السبت وكان واقفا فى مكانه على رصيف الميناء .. لمح سيدة ورجلا أوربيين يهبطان سريعا من الكوبرى الخشبى ويخرجان إلى الرصيف ..

ومرا بجواره .. فحرك العربة ثم ردها إلى مكانها ... لما لاحظ أنهما مترددان فى الركوب .. ثم ركبت السيدة الركشا وهى تقول شيئا بالإنجليزية وتبعها الرجل ..

ودار بهما لو فى المدينة فى شارع شستررود وكوين رود .. وسرت السيدة من المحلات الأنيقة ومن اللافتات الصينية وبالحروف الكبيرة على الواجهات . وفى الجوانب وكانت المدينة مزدحمة بالمارة والناس يتحركون فى سرعة وخفة .. وبدأ الصينيون أمامها قصار الأجسام قصار الخطو .. وأعجبت بهم فى الزى الصينى أكثر من إعجابها بهم فى الزى الأوروبى ..

وأبدت رغبتها فى أن ترى الهضبة .. وصعد بهما لو إلى الترام الصاعد ..

وبعد ساعة رجعا من جولتيهما وهبطا من الترام فأخذهما « لو » على التو إلى الحانة وكان الليل قد هبط وأضيئت المصابيح .. ولهب أحمر يندفع من فوق الربوة .. وظلال الأشجار الطويلة تتراقص حول الركشا ..

وكان لهب الشعلة الأحمر يدور فى الميناء والركشا تسير فى طريقها ولاح فى الأفق وهج أضواء مشتعلة تلقى ظلالها المتراقصة على أعلى مكان من الربوة ..

وتطلع الراكبان إلى السفح حيث تسبح المدينة فى بحر من الزمرد .. كانت الأضواء تتراقص فى الماء .. وتتلوى على صفحة الخليج الهادئ ثم تمضى مذعورة كأنها حيات طويلة قد اشتعلت فى ذيلها النار ..
وكانت كل الألوان الزاهية .. تتألق من المصابيح على السطح وفى التلال ..
وكان المنظر يحير الألباب ..

وسألت السيدة هيلين سائق الركشا :
ــ ما اسمك ..؟
ــ لو ..
ــ قف بنا لحظة يالو .. ما أجمل المنظر ..
ــ إن هذا المنظر يبدو أكثر جمالا من كالون ..
ــ حقا ؟
ــ بالطبع يا سيدتى سترين من الشاطئ المواجه جمال هونح كونج كله يتألق أمامك .. والهضبة تتوهج كأنها عقد كبير من الماس ..
ونظر لو إلى قلادة الماس على صدر السيدة ..

وقالت وهى تحرك يدها على القلادة كأنها تتأكد من وجودها ... فقد حذروها منذ هبطت المدينة من النشالين ومن أن تتركها فى الفندق ..
ــ ماس .. تمهل يالو .. ما أجمل ما حولنا .. أى منظر ..
ولما وقفت الركشا على باب الحانة كانا قد سكرا من المنظر ..

* * *

وكان لو رجلا وديعا هادئا .. وقد تناول ما قدمه له السائح .. وهو يحنى رأسه وينظر بإعجاب إلى المرأة التى بلغت الغاية فى الرقة والجمال ..

وكان السائحان زوجين من أواسط أوروبا يطوفان بالعالم .. وحطا الرحال بهونج كونج على أن يقضيا فيها شهرا أو شهرين ثم يتجهان إلى الهند فى الشتاء ..

وكان الرجل مهذبا دمث الخلق سمينا بعض الشىء .. أحمر الخدين ...

ولما وجد الحانة هادئة سر منها .. وكان يود أن يتناول عشاء صينيا خالصا أكثر من رغبته فى الشراب ..

وكانت الحانة فى الواقع مبتغى العشاق .. عشاق الهدوء وعشاق الطعام الصينى .. ويقصدها الذين ينشدون الهدوء والسكينة ولذة الغيبوبة التى تصيب الحواس ..

وهونج كونج الميناء التى تموج بالسفن .. والتى تبدو شوارعها فى كل الساعات فى أشد حالات الزحام والحركة ..
كانت تنتهى حركتها تماما إذا صعدت التلال ..

وتبدو الحانة فى كل الأوقات هادئة لا تحس بشىء مما يجرى حولها ..
وكان الهدوء قد جذب السيدة أكثر مما جذب الرجل ..

ولما دلتهما الساقية الصينية على القاعة السحرية .. دخلا وجلسا على الحشيات .. ووضعت السيدة البيبة بين شفتيها ودخنت لأول مرة الأفيون .. وأحست بلذة عارمة ..
ولما خرجت فى آخر الليل كانت تود أن تبقى إلى الصباح .

* * *

وبعد أربعة أيام .. جاءت فى الليل وحدها .. لم يكن فى صحبتها الزوج ..

ودخلت القاعة السحرية .. وتعرف إليها شاب صينى .. فظل معها إلى بعد منتصف الليل .. ثم ركب معها سيارة إلى الميناء .. وهناك رآها « لو » وهى تعبر الخليج .. فى صحبة الشاب .. إلى كالون..

وكان الشاب يرمى من عبوره معها الخليج أن يرافقها إلى فندقها إذ لم يكن من اللائق أن يترك سيدة وحدها فى الليل .. ولكنه راوغ فى الطريق كالثعلب .. وأخذها عندما أحس بأنها منتشية ومسلوبة الإرادة من فعل الأفيون إلى غرفة فى فندق رخيص وقضى معها ساعة ..

ولما خرجت من الفندق تفقدت قلادتها فلم تجدها .. فأدركت أن الشاب سرقها ولوعها الحزن .. وكتمت الخبر .. عن زوجها ..


وفى الصباح التالى زاد ارتباكها ..

وتحيرت ماذا تفعل وظلت حزينة .. ثم قالت لزوجها إنها ذاهبة فى جولة وحدها لتتسوق بعض الأشياء ..

ولما عبرت الخليج وجدت لو فى مكانه على الرصيف .. وكانت تود أن تحدثه عن ضياع القلادة .. ولكنها لم تستطع ..

ولما نظر « لو » إلى صدرها عاريا ولاحظ اضطرابها وشحوب لونها .. خمن أن شيئا حدث لها مع الشاب ولكنه لم يستطع أن يتكلم ..

ولكن نظرات المرأة إليه أشاعت اللوعة فى نفسه فقد كانت تستغيث به فى صمت وعذاب قبل أن تشيع الفضيحة ويعرف زوجها الخبر .. ويعلم بسقطتها وأدرك بذكائه وتعرفه على خفايا المدينة كل ما حدث ..

* * *

ولم يشاهد لو فى الحانة ولا الميناء قرابة شهر انقطعت أخباره .. ثم ظهر فجأة كما غاب فجأة ..

وكان يجر عربة الركشا بذراع واحدة .. وظهرت القلادة على صدر الزوجة الحسناء ..

ولكن أحدا لم يعرف السر .. ولم يعرف أن لو هو الذى أعادها للسيدة الشابة بعد معركة رهيبة فى ظلام الليل .. فقد بسببها ذراعه ..
=================================
نشرت فى صحيفة أخبار اليوم فى 28/10/1961 وأعيد نشرها فى كتاب محمود البدوى " عذراء ووحش " وفى كتاب " قصص من هونج كونج " من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر ط 2001
=================================

ليست هناك تعليقات: